من واقع التجربة
من أرشيف مسيرتي الصحفية المتواضعة: حين تحدثت إليّ العين التي لا تبصر ولكنها ترى
في بدايات مسيرتي الصحفية، حين كانت الكلمات ترتجف على أطراف قلمي، كنت أبحث عن قصة لا تملأ الصفحات فحسب، بل تملأ القلب وتهز الوعي، ووسط زحام الأحداث اليومية، وجدت نفسي أمام تجربة إنسانية خالدة، حوار مع فتاة كفيفة.
دخلت اللقاء بعين الصحفي، وخرجت بقلب الإنسان.
كانت تجلس بهدوء، بثقة لا تنتمي لفاقدي البصر كما نتخيل، بل لمن أبصروا ببصيرتهم ما لا تراه أعيننا. تحدّثت عن تفاصيل الحياة التي نغفل عنها نحن المبصرين. عن الضوء الذي لا يُرى بالعين، بل يُحس في الروح. عن الأصوات التي تحمل وجوه الناس، والأيام التي تُحفظ لا في الصور، بل في الذاكرة والخيال.
سألتها:
هل تشتاقين لأن تري؟
فابتسمت، ثم قالت:
كل شيء يمكن تخيله، يمكن رؤيته، لكن ما أشتاق إليه فعلًا هو أن يشعر الناس بما لا يرونه.
تلك الجملة، التي كانت عابرة في نبرة صوتها، بقيت ساكنة في وجداني لسنوات.
لم يكن ذلك الحوار مجرد مادة صحفية، كان درسًا في الإدراك، في التأمل، في فهم النعمة حين تُسلب، والقدرة حين تُقيد، وكيف يظل الإنسان قادرًا على أن يحيا بكامل المعنى.
تلك الفتاة الكفيفة كانت ترى بعين القلب، كانت أكثر إدراكًا للعالم من كثير منا. وأنا، الصحفية المبتدئة آنذاك، كنت التلميذة الحقيقية في هذا اللقاء.
اليوم، وبعد مرور سنوات، أعود إلى هذا الحوار في أرشيفي الشخصي، لا لأتباهى به، بل لأتذكر كيف يمكن لقصة واحدة، حقيقية وصادقة، أن تغيّر نظرتك إلى كل شيء.