آخر تحديث: 18 / 10 / 2025م - 5:43 م

أبو فتحي... صاحب القلب الكبير

رضي منصور العسيف *

لم يكن الحاج أبو فتحي رجلًا عاديًا، بل كان طيفًا حيًّا في مجالس القطيف وديوانياتها.

تحلُّ روحه كنسمةٍ من المرح، فينقلب الصمتُ إلى ضحك، والجدالُ إلى ساحةٍ للنقاش الحيوي.

لم يكن يحمل شهادةً عليا، ولا يشغل منصبًا مرموقًا، لكنه حمل قلبًا كبيرًا وعقلًا حاضرًا وروحًا لا تعرف الانكسار.

كان عاملًا بسيطًا في إحدى المدارس، غير أن زملاءه أحبّوه كما يُحبّ النورُ إشراقةَ الصباح، حتى إذا حان يوم تقاعده، أقاموا له حفلاً يشبه حفلات الكبار… لأنه كان كبيرًا في قلوبهم.

لم يكن أبو فتحي لاعبًا رياضيًا، لكنه كان أحد مؤسسي الدورات الرياضية الخيرية التي جمعت الشباب على المحبة والعطاء.

وعرفته جماهير القطيف بما يبيعه من مُرَطِّباتٍ ومأكولاتٍ شعبية في المناسبات والفعاليات، فكان حضوره دائمًا عنوانًا للبساطة والبهجة ودفء اللقاء.

بعد التقاعد، ظلّ أبو فتحي يتنقل بين أحياء القطيف على دراجته النارية القديمة؛ صديقه المخلص الذي لا يخذله مطرٌ ولا حرّ.

ولكن القدرَ خبّأ له امتحانًا آخر…

الوفاء في زمن العجز

حين مرضت زوجته أم فتحي، لازمها كظلّها.

كانت أيامها بين ألمٍ وسكون، وهو إلى جوارها لا يملّ ولا يكلّ، يقرأ لها الدعاء ويبتسم كلما فتحت عينيها المتعبتين.

كان حبّه لها أعمق من الكلام، ووفاؤه صامتًا كالنهر الجاري.

حتى إذا اشتدّ عليها المرض، نقلها إلى المستشفى، وبقي يزورها يوميًّا، يُهديها وردة الأمل ويعود إلى بيته وحيدًا إلا من صوتها في ذاكرته.

الإنذار الصامت

وذات صباحٍ، لمح أبو فتحي لونًا غريبًا في بوله… أحمر كالجرس الذي يقرع في أعماقه.

ارتبك قليلًا، ثم تظاهر بالشجاعة التي طالما تزيّا بها:

”سيزول الأمر غدًا… لا داعي للقلق.“

لكن الغد لم يأتِ كما تمنّى، واللون الأحمر لم يختفِ.

حينها حمل نفسه إلى الطبيب.

أنصت الطبيب لقصته بوجهٍ جادٍّ وقال برفق:

”ربما هو التهاب بسيط، لكننا سنجري التحاليل للتأكد.“

بعد أيامٍ، جاء الاتصال الذي بدّل ملامح الأيام:

”يا أبا فتحي، عليك مراجعة مستشفى الملك فهد التخصصي فورًا… هناك دهون على كليتك، ويجب المتابعة معهم.“

الرحلة إلى التخصصي

في المستشفى التخصصي، وبعد سلسلةٍ من الفحوصات، جلس الطبيب أمامه وقال:

”لديك ورم حميد في الكلية… ويجب استئصاله جراحيًا.“

لم يرتجف قلبه، بل قال ببساطة المؤمن:

”توكلتُ على الله.“

دخل غرفة العمليات، وخرج منها بعد ساعاتٍ طويلة.

وفي اليوم التالي، جاء الطبيب يحمل في صوته خبرًا يثقل الجبال:

”لقد أزلنا الورم، لكن هل تعلم أن لديك كليةً واحدة فقط، ولم يتبقَّ منها سوى الربع الصالح. عليك أن تحافظ عليها… فأي إهمال سيقودك إلى الفشل الكلوي.“

ابتسم أبو فتحي بهدوء وقال:

”أعرف ذلك يا دكتور… وسأحاول.“

لكنه لم يعتد القيود…

فكان يأكل كما يشتهي، ويعيش كما اعتاد، حتى سمع من الطبيب تلك الجملة القاسية يوم مراجعته التالية:

”لقد وصلتَ إلى مرحلة الغسيل الكلوي… لو التزمتَ بالحمية لابتعدت عن الغسيل عامين آخرين على الأقل.“

صمت بعد الضجيج

بدأ أبو فتحي رحلة الغسيل ثلاث مرات في الأسبوع.

تغادره طاقته بعد كل جلسة، ويعود إلى بيتٍ خالٍ إلا من الذكريات.

كان يجلس في زاوية الغرفة يتأمل صور زوجته، يهمس:

”ليتك كنتِ معي يا أم فتحي… الغياب موجع.“

وذات مساءٍ، زاره الأصدقاء.

وجدوه صامتًا، شاحبًا، غاب صوته الجدلي وضحكته المعهودة.

قال له أحدهم مازحًا بحنان:

”يا أبا فتحي، نحن نعرفك لا تستسلم بسهولة… غدًا ننتظرك في الديوانية كعادتك، لا تتأخر.“

ابتسم بعينٍ باهتةٍ وقال:

”لا تنسوني من الدعاء… لعلّي أستطيع الحضور.“

اللقاء الأخير

في الليلة التالية، حمل نفسه رغم التعب، وامتطى دراجته كفارسٍ يعود إلى معركته الأخيرة.

وصل إلى الديوانية، دخل مبتسمًا وقال بصوتٍ خافت:

”لقد حضرت… لأشارككم الجلسة.“

جلس بينهم، وكانت جلسة عامرة بالذكريات والضحك والحديث الشيق، كما لو أراد أن يختتم بها فصلاً من حياته.

ضحك معهم، شاركهم النكات القديمة، وودّعهم بابتسامةٍ واسعة كأنها تقول:

”الحياة جميلة ما دمنا معًا.“

خرج أبو فتحي مودّعًا أصدقاءه إلى ليلةٍ أخرى وعدهم بها…

لكن تلك الليلة لم تأتِ.

ففي طريق عودته، وعلى دراجته التي أحبّها، داهمه القدر بحادثٍ أنهى الرحلة.

رحل أبو فتحي بهدوءٍ كما عاش، فارسًا شجاعًا، وافيًا حتى النهاية.

بصمة لا تُمحى

بكى الأصدقاء حين سمعوا الخبر، ولم يكن في المجلس سوى صوته القديم يتردّد بينهم.

قال أحدهم:

”رحل الجسد… لكن ظلّ صوته في ذاكرتنا حيًّا، يذكّرنا بأن الحياة تُقاس بما نزرع من أثر، لا بما نحصل من جاه.“

وهكذا، ظلّ أبو فتحي حاضرًا في القلوب،

رمزًا للوفاء، ولرجلٍ أحبّ حتى النهاية،

ورحل كما يرحل النبلاء…

على طريقٍ مفروشٍ بالصدق والذكريات.

الفاتحة إلى روح المرحوم الحاج عبدالله حسن المسجن أبو فتحي

تاريخ الوفاة 3 رمضان 1446 هـ

كاتب وأخصائي تغذية- القطيف