آخر تحديث: 18 / 10 / 2025م - 8:33 م

حياة الخلاء.. روح الكشفية التي بدأت تتوارى

مبارك بن عوض الدوسري *

منذ تأسيس الحركة الكشفية قبل أكثر من قرن، ارتبطت حياة الخلاء بها ارتباط الروح بالجسد، فكانت هي القلب النابض للطريقة الكشفية، والميدان الأرحب لتربية الفتية والشباب على الاعتماد على النفس، والانضباط، وروح الجماعة، وحب الطبيعة؛ لذلك لم يكن غريباً أن يُقال قديماً: ”لا كشفية بدون حياة الخلاء“، فهي ليست مجرد نشاط ترفيهي أو رحلة عابرة، بل أسلوب تربوي أصيل يُشكل أحد أهم ركائز المنهج الكشفي وأقوى أدواته التربوية.

في حياة الخلاء يعيش الكشاف تجربة فريدة يتعلم من خلالها كيف يتعامل مع الطبيعة، فيفهم لغتها ويكتشف أسرارها، ويتقن مهارات العيش فيها ببساطة وإبداع؛ هناك في الخلاء يتذوق معنى الحرية الحقيقية، ويتعرف على ذاته، ويقوّي جسده وفكره وروحه؛ وهناك أيضاً تتجسد القيم الكشفية في أبهى صورها: التعاون، والإيثار، والانتماء، وتحمل المسؤولية، وحب الوطن والطبيعة؛ إنها المدرسة الكبرى التي تصقل الشخصية وتُعيد التوازن النفسي والجسدي بعد ضجيج المدن ورتابة الحياة الحديثة.

غير أن المتأمل في واقع الحركة الكشفية خلال العقدين الأخيرين، يلحظ بوضوح تراجع الاهتمام بحياة الخلاء، حتى كادت أن تُهمل في كثير من البرامج والخطط الكشفية؛ ويعود ذلك - للأسف - إلى جملة من الأسباب، في مقدمتها ضعف إدراك بعض القادة الجدد لأهميتها التربوية، واندفاعهم نحو الأنشطة السريعة الجاذبة، إضافة إلى وتيرة الحياة الحديثة التي حدّت من فرص التخييم والرحلات الخلوية، فضلاً عن اعتماد كثيرين على التقنيات والأجهزة الحديثة التي حلّت محل المهارات الكشفية الأصيلة، فغابت شارات الهواية المتعلقة بالرحلات والتخييم والطهي الخلوي، وضعفت روح المغامرة التي كانت تميز الكشاف في الماضي.

إن حياة الخلاء ليست ترفاً كشفياً يمكن الاستغناء عنه، بل هي جوهر التجربة الكشفية ذاتها، وهي الوسيلة الأصدق لترجمة مبادئ الحركة التي حددها مؤسسها اللورد بادن باول حين قال: ”إذا أردنا أن ينعم أولادنا بالسعادة في حياتهم، فعلينا أن نعودهم على عمل الخير والتمتع بجمال الطبيعة“. فكل ساعة يقضيها الكشاف في أحضان الطبيعة، تزرع فيه قيماً لا تزرعها قاعات التدريب ولا شاشات الأجهزة الذكية؛ ومن هنا فإن استعادة مكانة حياة الخلاء في البرامج الكشفية واجب تربوي ملحّ، يتطلب من القادة إعادة الاعتبار لهذا الجانب، وتنظيم الأنشطة التي تُعيد للفتية والشباب شغف المغامرة وروح الاكتشاف، وتُعيد للحركة الكشفية أصالتها التي بها تميزت وعبرها أثّرت في أجيالٍ من رواد الخير والبناء.

إنها دعوة صادقة لكل قائد كشفي أن يعود بجيله إلى الطبيعة، إلى الميدان المفتوح حيث يُصنع التحدي الحقيقي، وتُختبر المهارات، وتنمو القيم. فالتخييم والرحلات ليست ذكريات ماضية، بل هي روح الكشفية ومصدر قوتها، وبدونها تفقد الحركة كثيراً من معناها وأثرها؛ فلنجعل من حياة الخلاء منطلقاً متجدداً لبناء جيلٍ قادرٍ على مواجهة الحياة بثقة، ومحبة، وإيمانٍ بأن البساطة والاعتماد على النفس هما أول الطريق نحو السعادة والنجاح.