أخلاقيات ممارسة المهن
تمثّل أخلاقيات المهنة أحد الأعمدة والركائز الأساسية في بناء المجتمعات المتحضرة؛ فهي بمثابة البوصلة التي توجه سلوك العاملين في مختلف المهن نحو الالتزام والمسؤولية والنزاهة.
ولا يمكن لأي مهنة أن تزدهر أو تُكسب احترام الناس إلا إذا كان من يمارسها يؤدي واجبه بأمانة وضميرٍ حيٍّ.
فالأخلاق ليست زينة مكمّلة للمهنة، بل هي روحها وجوهرها، إذ تُحدّد العلاقة بين الإنسان ومهنته، وبينه وبين المجتمع الذي يخدمه.
يمكن تحديد مفهوم أخلاقيات المهنة بأنها هي مجموعة من المبادئ والقيم التي تحكم سلوك الفرد أثناء ممارسته لمهنته، وتُوجّه قراراته نحو الصواب والعدل والمصلحة العامة.
وهي تعني التزام المهني بالصدق، والعدل، والاحترام، والوفاء بواجباته تجاه زملائه ومراجعيه ومؤسسته ومجتمعه. وبمعنى آخر هي التقاء بين الأداء المهني والضمير الإنساني، أي أن تكون ”محترفًا بشرف“.
تبرز أهمية أخلاقيات المهنة في تحقق الثقة بين المجتمع والعاملين في المهنة.
فالمريض يثق بالطبيب إذا التزم بأخلاقيات المهنة، والطالب يحترم معلمه إذا كان أمينًا في تدريسه. كذلك ترفع مستوى الأداء والإنتاج؛ لأن العامل الذي يتقن عمله ويؤديه بإخلاص، ينعكس عطاؤه على جودة النتائج. إضافة إلى ذلك فأنها تحمي المجتمع من الفساد؛ فالأخلاق المهنية هي خط الدفاع الأول ضد الغش والتزوير والاستغلال. وأخيرًا تعزز سمعة المهنة؛من خلال التزام أهلها بالصدق والنزاهة والتي تكتسبه مكانة مرموقة في المجتمع.
تقوم أخلاقيات المهنة على مجموعة من الأسس تتمثل في:
1. الأمانة وتكون في أداء العمل بإخلاص دون غش أو تهاون، وحفظ أسرار المهنة.
2. الصدق ويبرز في قول الحقيقة في التقارير والمعلومات وعدم تزويرها لأي سبب.
3. العدل والإنصاف ويكون في معاملة الجميع بعدالة بعيدًا عن التحيز أو المصلحة الشخصية.
4. الاحترام المتبادل وذلك في احترام الزملاء والرؤساء والعملاء، وتقدير جهود الآخرين.
5. الإتقان وذلك عبر السعي إلى أداء العمل بأفضل صورة ممكنة، لأن الإتقان من الإيمان.
6. تحمّل المسؤولية من خلال الاعتراف بالخطأ عند وقوعه، والعمل على إصلاحه دون تهرّب.
7. الولاء للمهنة والمجتمع ويأتي ذلك من خلال تقديم المصلحة العامة على المصلحة الشخصية، وخدمة الوطن بضميرٍ مهني.
يمكن تطبيق أخلاقيات المهنة في مجالات الحياة المتعددة مثل التعليم وذلك عبر
• أن يكون المعلم قدوة في السلوك والانضباط.
• أن يعامل طلابه بالعدل دون تفرقة.
• أن يحترم عقل الطالب ولا يستخف بقدراته.
وفي الطب:
• حفظ أسرار المريض وعدم استغلال حالته.
• تشخيص المرض بدقة دون طمع مادي.
• التضحية بالوقت والراحة لإنقاذ حياة الآخرين.
والإعلام:
• نشر الحقيقة دون تضليل أو شائعات.
• احترام خصوصية الناس وكرامتهم.
• الالتزام بالمصداقية والموضوعية.
والإدارة والوظيفة العامة:
• العدل بين الموظفين والمراجعين.
• منع استغلال المنصب لتحقيق مكاسب شخصية.
• الشفافية في القرارات والأنظمة.
من العوائق التي تؤدي إلى عدم الالتزام بأخلاقيات المهنة
1. ضعف الوازع الديني أو الضمير المهني.
2. غياب القدوة أو الإشراف الإداري النزيه.
3. طغيان المصالح المادية على القيم.
4. عدم وضوح اللوائح أو ضعف تطبيقها.
5. تقليد النماذج الفاسدة أو الاستسلام لضغط الواقع.
من السبل التي تسهم في تعزيز أخلاقيات المهنة
1. غرس القيم منذ التعليم المبكر.
2. تضمين أخلاقيات المهنة في برامج التدريب المهني.
3. سنّ قوانين تحاسب من يسيء لمهنته.
4. إبراز النماذج الإيجابية من المهنيين المخلصين.
5. تحفيز بيئة العمل العادلة التي تُكافئ النزاهة والجدية.
الإسلام جعل الأخلاق أساس كل عمل، فقد ورد عن النبي ﷺ أنه قال: «إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملًا أن يُتقنه.»
كما دعا القرآن إلى أداء الأمانة والعدل في قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا﴾ [النساء: 58].
وقد ورد عن الإمام عليّ أنه قال:
«من ضيّع الأمانة وترخّص في الكذب فقد خرج من دين الله.»
فكل مهنة في الإسلام عبادة إذا كانت بنية صالحة وأداء أمين.
من الأهمية بمكان تحقيق القدوة التي تعتبر من أهم عوامل ترسيخ الأخلاق المهنية؛ إذ يتأثر المتدرّب أو الطالب بما يراه من معلمه أو قائده أكثر مما يسمعه منه.
فمن أراد أن يزرع الأمانة في الآخرين، عليه أن يكون أمينًا هو أولًا.
وهذا ما يجعل المؤسسات الأخلاقية تبدأ بإصلاح النموذج القيادي قبل أي شيء آخر.
ويؤدي الالتزام بأخلاقيات المهنة إلى تحقق نتائج عدة تتمثل بما يلي:
1. ازدهار المؤسسات وزيادة الإنتاجية.
2. انتشار الثقة والاحترام بين العاملين.
3. تحسن صورة المهنة في نظر المجتمع.
4. راحة الضمير ورضا الله عز وجل.
ختامًا، نؤكد إن أخلاقيات المهنة ليست مجرد قواعد جامدة، بل هي منظومة إنسانية شاملة تُعبّر عن حضارة الشعوب ورقيّها.
فالمجتمع الذي يلتزم أفراده بأخلاقيات العمل هو مجتمع يبني نهضته على الضمير والإخلاص لا على المصلحة والمنفعة.
وحين تتحول الأخلاق إلى سلوكٍ يومي داخل كل مهنة، يتحقق التوازن بين التقدّم المادي والقيم الإنسانية، فيغدو العمل عبادةً وشرفًا ورسالةً.