آخر تحديث: 18 / 10 / 2025م - 8:33 م

جيل الزمن الجميل في جزيرة تاروت

عباس سالم

في يوم من الأيام سألني أحد أبنائي عن معنى الزمن الجميل في جزيرة تاروت، ولماذا تقولون أنتم الآباء إن الحياة كانت أفضل من حياتنا التي تعيشونها الآن أنتم الأبناء؟ فأجبته: يا ولدي، إن الزمن الجميل هو زمننا نحن الذين ولدنا في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، وقرونٍ سبقتنا، بالرغم من الفقر الذي كان يخيم على بيوتنا، إلا أن الحياة كانت جميلة وممتعة وبسيطة.

يا ولدي، نحن جيل ولدنا ولم نرتدِ يومًا حفاظةً من «البامبرز» وأخواتها، لأن أمهاتنا كن يهيئن قبل ولادتنا قطعًا من الملابس القديمة تسمى «بِسطة» تستخدم لتلحيفنا وتنظيفنا. ولم نذق في حياتنا طعم حليب «نانا» أو «النيدو» ولا «سيميلاك أدفانس»، لأننا كنا نرتوي من أمهاتنا بالرضاعة الطبيعية، وإذا مرض أحدنا يسقى من «خيار الشمبر» أو «الماء المخموج بالليمون الأسود»، أو يأخذونه إلى بيت الجدة للاستشفاء من حنانها.

يا ولدي، كانت الحياة في زمننا بسيطة، والناس متواضعة، والجار للجار، والبيوت أبوابها مفتحة طول النهار، وتغلق ليلًا تمهيدًا للنوم، والسهر ممنوع خارج البيت. والمرأة لا تتردد بأن تمر بيت الجيران وتأخذ ما تحتاجه لطبخ غدائها. وكانت أعراسنا جميلة، يفرح فيها الصغير والكبير، وطبخ الغداء والعشاء في «الفريج»، وطباخونا من خيرة رجال بلدتنا، يساعدهم كل أصدقاء العريس حتى نهاية المناسبة. لم نعرف صالات الأفراح أو نستأجرها لليلة واحدة بآلاف الريالات، وإنما كانت حسينياتنا جاهزة لاستقبال مناسباتنا.

يا ولدي، في زماننا كانت الأعمال والمهن تدار بأيدٍ وطنية، ولا توجد مستشفيات للولادة في البلدة، وأغلبنا ولد ولادة طبيعية في المنزل، ولا نعرف حضانات ولا عاملات ولا مربيات، على الرغم من أن أمهاتنا كن يعملن من الصباح حتى المساء جنبًا إلى جنب مع الرجل في المزارع والبساتين. والمرأة كان لها دورًا كبيرًا تقوم به دون ملل ولا كلل، حيث كانت مع نسمات الصباح تلملم حاجاتها وتذهب إلى عين العودة لغسلها، وتأدية كل الواجبات البيتية حتى في الساعات الأخيرة من الحمل! ومع كل هذا فهي لا تتذمر، ولا تشتكي، ولا ترفع صوتها، بل تحمل في صمتها كل أثقال الحياة.

يا ولدي، في زماننا كنا نخرج من البيت في الصباح ولا نعود إليه إلا في المساء! وكنا نهايل وننام في كل مكان، في البر والبحر والمزارع، كلها أمان! وكنا نلعب الكرة صباحًا ومساءً بين النخيل وعند أطراف البساتين والمزارع، وإذا أردنا الماء نشرب من السيبة أو الساقية، ولم نعرف يومًا أن هناك ماءً يباع في علب بلاستيكية. وكنا نشرب ثلاثة أو أربعة أشخاص من غرشة «بيبسي» واحدة، ونأكل اللوز والكنار وغيرها من الباعة المتجولين، ولم يمرض أيٌّ منا أو يتسمم بسبب ذلك.

يا ولدي، في زماننا لم نكن منعزلين عن بعضنا بعضًا، ولم يكن لدينا «واي فاي»، ولا نعرف الإنترنت، ولا لعبة «السوني» وأخواتها من الأجهزة الإلكترونية التي أشغلتكم عن صلاتكم اليوم، وإنما كنا نلعب الألعاب الشعبية مثل: لعبة «التيلة»، و«الدوام»، و«الطير والدحاحوه»، و«الوصلي» و«المخطة» وغيرها من ألعابنا الشعبية. وتعلمنا السباحة في عين العودة وحمام تاروت الشهير، وكنا نلعب فيه لعبة «صافي الوافي تعال به»، ولم يكن واحد من جيلنا لا يعرف السباحة.

يا ولدي، لم يكن في زماننا أقمار صناعية تسبح في الفضاء على مدار الساعة، وتغازلها على الأرض الرؤوس الدائرية «الدشات» المعلقة في كل بيت، لتبث لنا مئات القنوات الفضائية بكل وضوح. وإنما كان لدينا أنتل هوائي معلق على ماسورة من الحديد ومثبتة على جدران ورشة البيت، يبث لنا محطتين محليتين، وإذا طلبنا محطة البحرين مثلًا أو أي محطة خليجية أخرى، علينا أن نستعين بصديق صاحب عضلات وأعصاب، ليقوم بفر الأنتل في كل الاتجاهات علنا نحصل على صورة واضحة وغير مشوشة لأحد الأفلام قبل نهايته.

يا ولدي، كنا أصدقاء في بلدتنا «جزيرة تاروت»، وأصدقاء في نفس المدرسة التي ندرس فيها بين البساتين، وكنا نذهب إليها مشيًا على الأقدام، تطربنا زقزقة العصافير وهديل الحمام. ولم نركب يومًا ميكروباصًا، ولا كان لدينا سائق خاص ينتظرنا أمام باب بيتنا كل يوم، ومع ذلك كنا ملتزمين بالحضور، وحريصين على دراستنا، ونبكي إذا نزلت درجاتنا أو حصلنا على دائرة حمراء في مادةٍ ما! وعندما كنا نخرج إلى البيت مع نهاية الحصة الأخيرة، لم يكن أحد من عديمي الضمير الذين يروجون السموم موجودًا أمام بوابة المدرسة، بل كنا نجد بائع الآيسكريم والحلويات بعربته يفترش الأرض أمام البوابة.

يا ولدي، في زماننا كنا لا نعرف المطاعم ولا نعرف الأطعمة السريعة مثل: الهامبرغر، والبروستد، وكنتاكي، والبيتزا وأخواتها، والشاورما على الصاج وغيرها من الأطعمة السريعة التي تغص بها المطاعم في زمانكم. حتى اللحم لا يزور بيوتنا إلا في أيام قليلة! كنا أصدقاء في بلدتنا، نتعلم من المعلم، ونلعب سويًا بنين وبنات، ولم نفكر يومًا باختلاف جنسنا، بل كنا نحافظ على بنات بلدتنا كأنهن أخواتنا، وإذا جاء أحد الغرباء إلى البلدة ورأينا الريبة في سلوكه، اجتمعنا عليه وطردناه بالحجارة، ولم يتجرأ بدخولها مرة أخرى.

يا ولدي، في زماننا كانت البساتين والمزارع الخضراء تحيط بجزيرتنا، وكنا نعرف أسماءها مثلما نعرف أسماءكم، لكننا لم نسمع بالأسماء المستحدثة فيها مثل: الأندلس، والأمازون، والصدفة، والرملة البيضاء، والجوهرة، والرابية، و«نيو بيتش»، واليمامة، والدوخلة. فما نعرفه هو أسماء بساتين النخيل والمزارع الجميلة التي كانت في «جزيرة تاروت»، واعتنى بها الفلاحون والمزارعون من رجال بلدتنا يرحمهم الله، جيلًا بعد جيل، لعشرات السنين، واشتغلنا فيها مساعدين لهم في مواسم التنبيت، والتحدير، والصرام، في عطلات المدارس. وهذه البساتين والمزارع هي:

بستان عين أم عريش، والصدري، والخضاري، وسودا، وقضبة، ونخل الجشي، والصادق، وسماوي، والقواسمي، وأم الشجر، والفسيل، وباشلامة، والمخيمرة، والدالية، وزدادان، والعميرة، والعمارة، وزيزة، والمزارع المحيطة بمسجد الخضر، والبقعاوي، ومزرعة الجنوبي، والرفيعة، ومزرعة الكويتي، ونخل المصلي، وعين الصفار، والوزارة، وبساتين الحليبي، والفلف، وأرض البقل، والكريدية، والمغيلية، والعقير، ومزارع الشمال الجميلة، وغيرها من البساتين والمزارع.

ختامًا: يا ولدي، مع كل ما ذكرته، فإن جيلنا هو جيل الزمن الجميل، حيث كانت بلدتنا واحة من الخضرة والجمال، تؤنسنا فيها زقزقة العصافير وهديل الحمام، وناسها أكثر طيبة ومحافظة على القيم والأخلاق. أما جيلكم يا ولدي، فأظنه جيل الإنترنت والمطاعم والكافيهات، الذي ألقى بظلاله على أفكاركم وألعابكم وطرق تعلمكم، بل حتى في تربيتكم!