آخر تحديث: 18 / 10 / 2025م - 8:33 م

الحياة… الكتاب الذي يكتبنا

نازك الخنيزي

ليست الحياةُ معلّمًا، بل اختبارٌ دائمٌ للروح.
لا تُلقِّننا، بل تجرّب بنا أشكالها الممكنة.
تكتبنا كما تنحت الريح وجهَ الصخر:
لا لتُغيّرنا فقط، بل لتكشف ما خفيَ في أعماقنا.
فكلّ ما نظنه نهايةً، هو في الحقيقة بدايةٌ أخرى للوعي.

الحياة لا تُلقّن دروسها كما تُلقَّن القواعد، ولا تُختزل في الكتب أو الشهادات.
فهي لا تفسّر نفسها، بل تُفصح عن معناها حين تصطدم أرواحنا بأسئلتها الكبرى.
تكتبنا على مهلٍ، بحروفٍ من التجربة لا من الحبر،
وتعيدنا في كل مرة إلى الصفحة الأولى، كمن يولد من رماده دون أن يدري.

كنتُ أظنّ أن المعرفة تُكتسب من القراءة، حتى أدركت أن الكتب الحقيقية تُكتب فينا لا أمامنا.
كانت الحياة معلمي الأول والأبقى، كتابي الذي لا يملّ من إعادة صياغتي كلما خُيّل إليّ أني فهمت.

لم تكن دروسي من الورق، بل من البشر،
من المواقف التي تُهذّب القلب أكثر مما تُهذّب العقل،
ومن الانكسارات التي تفتح في الوعي نوافذ لا تُغلق.

من نحن حين تُعيدنا التجربة إلى أصلنا؟
هل نكبر بالحكمة أم نعود إلى ما كنّا عليه قبل اللغة؟
ربما الوعي ليس امتدادًا للزمن، بل عودةٌ إلى جوهرٍ كان يعرف منذ البدء.
هكذا نفهم أن النضج ليس نهاية الطفولة، بل استعادةٌ بريئة لصفائها القديم.

في عيون الأقارب قرأتُ أن الودّ لا يمنع الغدر، وأن الابتسامة قد تُخفي خيبةً مكتومة،
فأدركت أن الحذر ليس خوفًا، بل وعيٌ بمحدودية البراءة.
وفي قلوب الأحبة رأيتُ أن الحبّ، في صورته الأصفى، لا يشبه الحكايات، بل يشبه الحقيقة: ناقص، موجِع، ومع ذلك لا يُستغنى عنه.
أما في صفحات الأصدقاء فأدركت أن الرحيل لا يعني الانقطاع، بل شكلٌ آخر للبقاء،
وأن النكران قد يكون الطريقة التي يُعلن بها الوداع نُبله الأخير.

غير أنّ أعظم الدروس جاءت من صمت المقابر،
من الذين غابوا وبقي أثرهم يضيء فينا كما يضيء الجرح حين يُشفى دون أن يُنسى.
هناك، فهمت أن المحبّة ليست عاطفةً، بل مسؤوليّةٌ تُنضج الوعي.
هي التي تجعلنا نوقن أن الفناء ليس نقيض الحياة، بل وجهها الآخر.

ومع اتساع الرؤية، يغدو العالم كتابًا تتبدّل فصوله مع كل شروق.
الخريف يُرينا جمال التخلّي حين يصير شرطًا للبقاء،
الشتاء يلقّن الأرض صبرَها على الصقيع،
والربيع يهمس بأن الأمل يولد دومًا من رمادٍ ما.
كلُّ فصلٍ لا يمرّ على الأرض فقط، بل يمرّ فينا أيضًا،
كأنّ الزمن يتدرّب في أرواحنا على الخلق من جديد.

ًفي مدرسة الوجود، لا شيء يُمنح بلا ثمن.
كلّ درسٍ يُستخلص من شيءٍ نفقده:
من طيبتنا حين نتعلّم الحذر،
ومن براءتنا حين نصبح أكثر وعيًا،
ومن دفء القلب حين ندرك أن النقاء وحده لا يكفي للبقاء.
فالحكمة لا تُقاس بالعمر، بل بما نخسره دون أن نفقد إنسانيتنا.

الوعي، في جوهره، ليس معرفةً ولا يقينًا،
بل قدرةٌ على النظر في العتمة دون خوفٍ من الضوء.
نكتشف أنّ التجربة ليست تغيّرًا فينا، بل انكشافٌ لما كان مستترًا فينا منذ الأزل.
فالحياة لا تُخبرنا مَن نحن، بل تجرّب بنا ما يمكن أن نصبحه.
وكلُّ وجعٍ عميق هو تذكيرٌ بأننا لا نزال أحياء،
وأن الجرح قد يكون نافذةً تُطلّ على المعنى.

كأنّ الحياة كلّها تتذكّر ذاتها فينا،
لتدرك — عبرنا — أن الخلق لم ينتهِ بعد،
وأن الوعي الإنساني ليس غاية الوجود، بل وسيلته إلى أن يرى نفسه.

وفي النهاية، ندرك أن الحياة لا تُقرأ كما تُقرأ الكتب،
بل كما تُقرأ المرايا: من الداخل.
فهي لا تروي قصّتنا، بل تجرّب بنا معنى الوجود،
وتعيد تشكيلنا كما تعيد الريح نحت الصخر حتى يشبه جوهره.
وحين نصغي إلى هذا الفهم، ندرك أن الوعي ليس خاتمة الطريق،
بل إشراقةٌ جديدة في كتابٍ لا ينتهي،
كتابٍ نكتبه ونُكتَب فيه،
بالحبر، وبالوجع، وبنورٍ لا يُطفأ.