من هو المفلس الحقيقي؟
حين يتبادر إلى أذهان الناس مفهوم «الإفلاس» فإن الصورة الأولى التي ترتسم عادةً هي صورة رجل أنهكته الديون، أو خسر تجارته، أو ضاعت أمواله، فصار لا يملك شيئًا من متاع الدنيا، ومثل هذه الحالة تُعد في العُرف الاجتماعي من أسوأ ما يُمكن أن يمر به الإنسان.
لكن هل هذا هو الإفلاس الحقيقي؟ وهل الفقر في المال هو الخسارة الأكبر في حياة الإنسان؟
ذات مرة، وبينما كنت أتصفح بعض كتب الحديث، استوقفني حديث نبوي عميق المعنى، قال فيه النبي محمد ﷺ: «أتدرون من المفلس؟» إنه حديث مشهور مروي عن الفريقين، حيث صوّر لنا نبي الرحمة مشهدًا مهيبًا من مشاهد يوم القيامة، حيث يُعاد فيه تعريف الإفلاس من جديد، ولكن على ميزان العدالة الإلهية. فالإفلاس الحقيقي كما يصفه النبي ليس إفلاس الأموال، بل الإفلاس الأخلاقي، حين يخسر الإنسان حسناته ويضطر إلى دفعها كتعويضات عن مظالم ارتكبها في حياته، فيتحول بذلك رصيده من الطاعات إلى حق للآخرين.
كلنا يعلم أننا في زمن يكثر فيه الحديث عن «النجاح» و«الربح»، ولكن القليل من الناس من يسأل نفسه: هل أنا ناجح في علاقتي مع الناس؟ هل أحفظ حقوقهم؟ هل أراعي الله في لساني وتصرفاتي؟ فكم من مصلٍّ صادق في عبادته، لكنه مُفلس في تعامله، ويظن نفسه رابحًا، وهو خاسر يوم تزهق الأرواح وتُوزن الأعمال.
ففي الحديث المروي عن رسول الله ﷺ، وهو مروي من الفريقين، في صحيح مسلم، كتاب البر والصلة، حديث رقم «2581»، وفي وسائل الشيعة للحر العاملي ج 18، ص 349، ورُوي كذلك في بحار الأنوار للمجلسي ج 7، ص 259، وغيره من الكتب المعتبرة.
قال رسول الله ﷺ:
«أتدرون من المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع. فقال: إنَّ المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاةٍ وزكاةٍ وصيامٍ، ويأتي وقد شتم هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيُعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يُقضى ما عليه، أُخذ من خطاياهم فطُرحت عليه، ثم طُرح في النار.»
ففي هذا الحديث النبوي الشريف لا يرسم النبي ﷺ لنا مجرد تحذير، بل يبني فينا وعيًا أخلاقيًا جديدًا، بأن الخلاص يوم القيامة لا يكون فقط بأداء العبادات، بل بأداء الحقوق وضبط اللسان وسلامة القلب وعدالة التعامل، فالإسلام ليس طقوسًا بل هو منهج حياة متكامل.
وفي الكتاب الحكيم قال جل وعلا:
﴿وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا﴾ [الفرقان: الآية 23]
وقال الإمام علي ابن أبي طالب : «لا تنظر إلى كثرة صلاتهم وصيامهم، ولكن انظر إلى صدق الحديث وأداء الأمانة» [نهج البلاغة، حكمة 110، ص 323].
وفي الكافي ج 2، ص 104، نجد قول الإمام جعفر الصادق : «لا تغتروا بصلاتهم ولا صيامهم، ولكن اختبروهم عن صدق الحديث وأداء الأمانة.»
إن حديث «المفلس» ليس مجرد رواية تُقرأ وتُترك، بل هو عبارة عن مرآة صادقة تُظهر لك ملامح نفسك بوضوح قد لا يُريحك، لكنه ينقذك. إنه أشبه بجرس إنذار ينبه صاحبه من أن يظن أنه في مأمن، ويوقظ الغافل الذي اعتاد أن يفصل بين العبادة والأخلاق، وبين أداء الشعائر وصيانة الحقوق، وبين التعبد لله والتعامل مع عباده. ففي عمق هذا الحديث النبوي الشريف دعوة جلية إلى إعادة ترتيب أولوياتنا الدينية والإنسانية، فليس النجاح أن تجمع الحسنات، بل أن تحافظ عليها، وليس الكمال في الصلاة وحدها، بل في نقاء القلب وسلامة اليد واللسان، فالمشكلة ليست أن تخسر مالًا، بل أن تخسر آخرتك أمام من ظلمتهم بقصد أو بدون قصد.
يا له من مشهد مخيف، أن تكون حسناتك يوم القيامة بطاقة نجاتك، ثم تذوب واحدة تلو الأخرى في يد من جرحت مشاعرهم، أو أكلت حقوقهم، أو سخرت من ضعفهم، أو نشرت عنهم ما يسيء. ويا له من قضاء إلهي عادل، أن يكون القصاص هناك بلا وساطة، ولا مواعيد مؤجلة، ولا اعتذار يُقبل.
فلنتوقف لحظة، لا لنتذكر ما فعلناه فحسب، بل لنتخيل أثره في ميزاننا، لنسأل أنفسنا: كم من موقف قلنا فيه «عادي»، كل الناس تفعل ذلك، لكنه ربما كان بداية لإفلاسنا الأخروي؟ كم من كلمة لم نعتذر عنها، وربما هي سبب فقداننا لأغلى أعمالنا الصالحة؟ إن التحذير الذي يحمله هذا الحديث النبوي الشريف لا يدعو إلى الخوف بقدر ما يدعو إلى التغيير، فهو يوقظ فينا رقابة الضمير، لا ليشل حركتنا، بل ليوجهها نحو ما يرضي الله، وما يطهر القلب ويضمن لنا حياة متوازنة مقرونة بالعدل والرحمة.
فلنقبل على الله سبحانه وتعالى، لا بخوف الخاسر، بل بعزم المراجعة والتوبة، ولنتعامل مع الناس لا كما نراهم، بل كما نود أن يُعاملنا الله جل وعلا يوم نلقى كتابنا، فالدين ليس سباقًا إلى الحسنات فقط، بل حرصٌ على ألّا تكون هذه الحسنات وقودًا لغيرنا يوم الحساب.
في زمن كثرت فيه المظاهر وقلّت فيه المراجعة الصادقة للنفس، يأتي هذا الحديث ليعيد إلينا البوصلة، ويذكرنا أن العدالة لا تنسى، والحقوق لا تسقط، والحسنات ليست ملكًا دائمًا ما لم نستطع المحافظة عليها.
فلو كُشف لنا اليوم الميزان، فهل سنجد ما يكفي من الحسنات لتغطية حقوق من ظلمناهم؟ وهل سنكون مستعدين أن نقايض كل تعب طاعتنا… مقابل مَظلمةٍ واحدةٍ؟