ميزان العقرب
في الأدب الروسي تُروى قصة ظريفة عن ضفدعٍ تعرف إلى صديق جديد هو العقرب. طلب العقرب من الضفدع أن يعينه على عبور النهر، فتساءل الضفدع متعجبًا: ”وكيف أضمن أنك لن تلدغني؟“ أجابه العقرب: ”لو لدغتك، غرقنا معًا ومتنا.“ اقتنع الضفدع، وحمل العقرب على ظهره. لكن في منتصف الطريق لدغه. وبينما السم يسري في جسده سأله الضفدع متألما قبل أن يلفظ انفاسه: ”ما الذي دفعك إلى ذلك، ونحن على وشك الهلاك؟“ فأجاب العقرب بهدوء: ”إنه طبعي، لم أستطع مقاومته.“ فمات الضفدع مسمومًا، وغرق العقرب مع خطيئته. هذه القصة تختصر قاعدة فلسفية تقول: ذاتيّ الطبع لا ينفك عن ذاته. ويلخّصها كذلك المثل الشعبي: ”أبو طبيع ما يجوز عن طبعه.“ فمن يرجو الخير ممن جبل على الشر، كمن يرجو الأمان من عقربٍ لا يجيد سوى اللدغ.
إن أطول آية في القرآن الكريم هي آية الدَّين، رقم 282 من سورة البقرة، التي تبدأ بقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ﴾ . هذه الآية - كما أفهمها - تضع حدًا يضمن الأمان للضفدع من لدغة العقرب، فهي تدعو إلى كتابة الحقوق وتوثيقها حتى لا يُترك المجال للطبع أن يغلب العقل. غير أن الإنسان ليس عقربًا محضًا ولا ضفدعًا خالصًا؛ فطبائعه متداخلة، وأحواله متقلّبة. فالعقرب قد يدأب على وجوه الخير حتى يبدو في هيئة ضفدعٍ وديع، والضفدع قد يضعف عن مواطن الصلاح، وينشغل بتفاصيل تافهة من حياته، فيُظنّ به الشر. إنّ المسألة أعقد من التصنيفات الثنائية بين الخير والشر، ولهذا جاءت آية الدَّين لتقيم ميزان العدل والاحتياط، إذ لا مفرّ من اتخاذ أعلى درجات الحيطة في حفظ الحقوق، لا سيما من العقرب الذي تقنّع بوجه الضفدع. غير أن التمييز بين المظهر والجوهر ليس أمرًا هيّنًا؛ فمعرفة الإنسان على حقيقتها تحتاج إلى وقتٍ وتجربةٍ واختبار. فالنبل لا يُقاس بكثرة الابتسامات، ولا تُعرَف الثقة من الصلاة في المسجد أو صدقةٍ عابرة، بل تُكشف في مواقف السفر، والضيق، والاختلاف، حيث تسقط الأقنعة وتتكشّف الطبائع. فهناك من يبدو وديعًا في الرخاء، فإذا اشتدّت الظروف انقلب إلى عقربٍ يلدغ، وهناك على النقيض من يبدو عاديًّا في السكون، فإذا نزل البلاء بان جوهره الأصيل. إنّ جوهر الإنسان لا يُرى بالعين، بل يُستقرأ بالمواقف، ولذلك كان الحذر فضيلةً لا تناقض الثقة، بل تصونها.
الإنسان كائنٌ مجهول، مظهره قد لا يكشف جوهره. وحُسن الظن وإن كان خُلقًا محمودًا، إلا أن الحذر أوجب، لأن النيات تُخفى، والطبع قد يغلب، والمظاهر قد تخدع. حين أكدت الآية الكريمة في شأن الدَّين على الكتابة، إنما أرادت أن تُبيّن أن العقرب لا يزال بيننا، وإن لبس ثوب الضفدع، وأن اللدغة ممكنة في أي لحظة. ومن هنا، كان اتخاذ أقصى تدابير الحذر واجبًا تمليه الفطرة والعقل، قبل أن توجبه الشريعة المقدسة.