الشباب بين الأصالة والمعاصرة
الشباب هم الوقود الذي يحرّك عجلة الحضارات، ومعول بناء الأُمم، والجسر الذي يربط بين الماضي والحاضر. والثقافات هي روح الأُمم، ولا تنهض أُمّة دون وعي أفرادها الجمعي على الشعور بأنهم جميعًا جزء من مصير واحد. فالثقافة هي التي تصنع الهوية المشتركة في المجتمعات، والشباب هم الوعاء الذي يحمل كل هذه المؤثرات، وعليهم اكتساب الثقافات بشكل متوازن؛ ذلك التوازن الذي يجمع بين الأصالة والمعاصرة. وعليهم كذلك أن يدركوا جيدًا بأنهم مطالبون بأن يفهموا أن الهوية ليست عائقًا، بل رصيدًا يمدّهم بالقوة حين ينفتحون على العالم، غير متمسكين بالأصالة وحدها، مع التأكيد بأنه من دونها يصبح الشباب بلا هوية. ومن دون وعي بالتاريخ، والمعاصرة تمنح الشباب القدرة على الانفتاح على العالم وعلى استيعاب التقنيات الحديثة والفنون والأفكار المبتكرة، ويتحوّل الشباب بالمعاصرة من مستهلكين للتكنولوجيا إلى صانعين لها. فالصراع الحقيقي ليس بين الأصالة والمعاصرة، بل بين الإفراط في أحدهما على حساب الآخر.
التوازن بين الأصالة والمعاصرة يحتاج إلى وعي مشترك بين المجتمع والشباب أنفسهم. فالمجتمع الذي يفرض القيود التقليدية التي تخنق طاقات الشباب، عليه أن يمنح هؤلاء مساحة للتجديد والإبداع، وهؤلاء مطالبون بالموازنة، ولتتولَّ المؤسسات التعليمية والإعلامية لعب دور الجسر بين هذه وتلك.
الشباب اليوم ليس أمام خيار إما الأصالة أو المعاصرة، بل أمام تحدٍّ يومي، وهو أن يعيش بقدميه في الحاضر وعينيه على المستقبل دون أن ينسى جذوره. فالمعادلة إذًا تقول: إذا حملنا أصالتنا معنا في معاصرتَنا، كسبنا الاثنين، وإذا تركناها فلن نحصل على آلية تصنع حضارة وتبني أُمّة.
لذلك فالجمع بين الأصالة والمعاصرة يأتي من خلال الحفاظ على الهوية الثقافية، ودمج عناصر حديثة تعكس تطورات العصر، واستخدام الشباب للتكنولوجيا من أجل تعزيز التراث الثقافي، مثل إنشاء محتوى رقمي يعكس القيم والتقاليد، ويساعد على الوصول إلى جمهور أوسع، وتوظيف المناهج التعليمية التي توازن بين التعلّم من التراث ومعرفة العلوم الحديثة، مما يسهم في بناء جيل واعٍ بقيمه ومعاصر في تفكيره.
دمج الفنون التقليدية مع الفنون المعاصرة، مثل الرسم، والموسيقى، والسينما، والابتكارات الحديثة، يخلق أعمالًا فنية فريدة تعبّر عن الهوية المعاصرة، مع تأكيد المبادرات الاجتماعية التي يشارك الشباب فيها، والتي تهدف إلى تعزيز القيم الثقافية مع مراعاة التحديات المعاصرة، مثل القضايا البيئية وحقوق الإنسان.
إن معرفة التحديات ومحاولة مواجهتها بالآليات الناجحة تمكّن الشباب من تحقيق التوازن بين الأصالة والمعاصرة، مما يساهم في تشكيل مجتمعات نابضة بالحياة. فالدول التي استثمرت في نشر ثقافاتها، مثل اليابان وكوريا الجنوبية وسنغافورة والصين، استطاعت أن تكسب احترام العالم، وتفرض حضورها حتى من دون سلاح. ولا نهضة بلا عقل نقدي وإبداعي، وهذا لا يتأتّى إلا بثقافة حيّة تشجع على التفكير لا على التكرار، ليبقى دور الشباب في صناعة المستقبل مسؤولية مزدوجة، عليهم أن يحافظوا على ملامح هويتهم وذاكرتهم، وأن يقودوا حركة التغيير بروح خلاّقة ومبتكرة تحوّل الإرث الثقافي إلى طاقة مستقبلية.
وبالرغم من أن التحديات التي تواجه الشباب في تحقيق التوازن بين الأصالة والمعاصرة في كل مجتمع تُعتبر متشابهة في عناصرها، وتتطلب وعيًا وتفكيرًا نقديًا من الشباب والمجتمع لدعم جهودهم في تحقيق ذلك، فإن ضغط التغيير السريع في التكنولوجيا والمجتمع يؤدي إلى فقدان الهوية الثقافية، حيث يسعى الشباب للتماشي مع الاتجاهات الحديثة. والصراع بين القيم، حيث يواجه الشباب صعوبة في التوفيق بين القيم التقليدية التي نشأوا عليها والقيم الحديثة التي تروّج لها الثقافة المعاصرة، إضافةً إلى التأثيرات الخارجية كالعولمة ووسائل التواصل الاجتماعي التي تفرض ثقافات جديدة قد تؤدي إلى هيمنة ثقافات معينة على حساب القيم المحلية. والتحديات الاقتصادية تدفع الشباب إلى التركيز على التحديات المعيشية، مما يجعل من الصعب عليهم الالتزام بالثقافة والتراث، وعندما يتواجد في المجتمع من الجيل الأكبر من قد يقف عائقًا ضد محاولات الشباب في دمج الثقافات، مما يؤثر على ثقتهم في التعبير عن أنفسهم.
هذه التحديات تتطلب الوعي من هؤلاء الشباب للجمع بين الأصالة والمعاصرة، وهي رحلة وعي تتطلب جذورًا راسخة وأجنحة واسعة. وإذا أدرك شبابنا أن هويتهم هي مصدر قوتهم، وأن انفتاحهم على العالم هو طريق نهضتهم، عندها فقط سنصنع مجتمعًا لا يذوب في الآخر، ولا ينغلق على نفسه، بل ينهض متوازنًا، مؤثرًا، ومؤمنًا بأن الثقافة هي حجر الأساس لكل حضارة. إذ من خلال هذه الجهود، يمكن للمجتمع أن يخلق بيئة تمكينية تدعم الشباب في رحلتهم إلى الجمع بين الاثنين.