آخر تحديث: 18 / 10 / 2025م - 5:43 م

حين يتكلم الضمير قبل الفقه

ياسر بوصالح

يحدثنا التاريخ عن تلك الحادثة الشهيرة [1]  التي تُروى عن أعرابي استمع إلى الأصمعي وهو يتلو «والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاءً بما كسبا نكالًا من الله والله غفور رحيم».

فقال الأعرابي مستنكرًا: ”هذا ليس كلام الله!“ فهاج الناس عليه، لكن الأصمعي سأله بهدوء: ”هل تحفظ القرآن؟“

— ”لا.“

— ”فكيف عرفت أن هذا ليس كلام الله؟“

فقال الأعرابي، مستندًا إلى فطرته اللغوية: ”عزّ فحكم فقطع، فلو غفر ورحم لما قطع!“

عندها أدرك الأصمعي أنه أخطأ في التلاوة، إذ أن الآية الصحيحة هي ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [2] 

أقول: ذلك الأعرابي اكتفى بالقرينة البيانية، فاستنكر بفطرته دون أدوات علمية، لكن لو أن مثل هذا السؤال وقع بين يدي عمالقة البيان القرآني، كالدكتور العراقي فاضل السامرائي [3] ، لرأيت كيف يُحلّق بك في سماء اللمسات البيانية، ويكشف لك عن دقائق المعنى التي لا تُدرك إلا بالبصيرة.

أو مثل الدكتور العملاق سعيد الزبيدي، الذي لم يكتفِ بالتأمل، بل حفّزه سؤالٌ عابر عن آية قرآنية إلى تأليف موسوعة كاملة عنوانها ”سؤال في التفسير؛ محاولة البحث عن منهج“، جاعلًا من كل استفهامٍ مفتاحًا لفهم، ومن كل حيرةٍ مدخلًا إلى علم، ومن كل ترددٍ بوابةً إلى يقين.

وفي ذات السياق، وقفتُ طويلًا أمام هذا الدعاء [4] ، سيّما أني لا أملك سوى بضاعةٍ مزجاة لا تخوّلني الوقوف على تفاصيله، فأنا أقلّ حتى من ذلك الأعرابي الذي استنكر بفطرته، بينما أنا أتعثر في التأمل:

اللهم أدخل على أهل القبور السرور،
اللهم أغنِ كل فقير،
اللهم أشبع كل جائع،
اللهم اكسُ كل عريان،
اللهم اقضِ دين كل مدين،
اللهم فرّج عن كل مكروب،
اللهم رُدّ كل غريب،
اللهم فكّ كل أسير

دعاءٌ لا يطلب لنفسه، بل يتوسل باسم الإنسانية كلها، لا يُفرّق فيه بين مسلم وغير مسلم، يطوف بين القبور والسجون، بين الفقر والمرض، بين الغربة والدَّين، وكأنه يرسم خارطةً للرحمة الإلهية على وجه الأرض باختصار: دعاء يؤدّب ويدرّب قارئيه أن تتسع قلوبهم لهموم الإنسانية جمعاء.

ولذلك، يعجبني في حياتنا العملية من يبني منهجًا إنسانيًا في التعامل مع الآخر، إذ أن جمال نداء الضمير الإنساني قد يكون صداه أقوى من نداء الالتزام الفقهي، لأن الفقه قد يقع في يد متشددة تُقيّد رحمة الله، بينما الضمير يفتح لها الأبواب.

ومن أولئك الذين جسّدوا هذا المنهج الإنساني، السفير الكويتي السابق محمد جاسم السداح [5] ، الذي كان يؤسس مسجدًا لطائفته السنية الكريمة، وآخر للطائفة الشيعية الكريمة، على حدٍّ سواء [6] ، دون تمييز أو تحزّب.

وكذلك المرحوم الحاج عبدالله المطرود [7]  أحد وجوه الاقتصاد في بلادنا الغالية المملكة العربية السعودية، الذي عُرف بمنهجه الإنساني، فكان يبني لكلا الطائفتين، كما ينقل عنه سماحة الشيخ حسن الصفار حفظه الله [8] ، في شهادةٍ تُضيء معنى التعايش وتُكرّس جوهر الدين.

بل أكثر من ذلك، ينقل الشيخ الصفار في كتاب الأوقاف وتطوير الاستفادة منها أن بعض الأوقاف كان ريعها يُصرف على فقراء أهل الكتاب [9] ، وكلنا نعرف كلمة أمير المؤمنين الشهيرة في حق ذلك النصراني «استعملتموه حتى إذا كبر وعجز منعتموه، أنفقوا عليه من بيت المال. [10] »

أو كلمته الأخرى التي تقطر رقة وإنسانية» وقد بلغني أن الرجل منهم كان يدخل على المرأة المسلمة والأخرى المعاهدة، فينتزع حجلها وقلبها وقلائدها ورعاثها، ما تمنع منه إلا بالاسترجاع والاسترحام، ثم انصرفوا وافرين، ما نال رجلٌ منهم كلمٌ ولا أُريق له دم، فلو أن امرأً مسلمًا مات من بعد هذا أسفًا، ما كان به ملوماً، بل كان عندي به جديراً». [11] 

وأجدني، بعد هذا المسار، أقف عند محطتين لا غنى عنهما:

إعمال العقل في التدبر في كل حرف ورد في كتاب الله، وما ورد من تراث أهل بيت الرحمة، فالمسألة ليست حكرًا على العلماء، بل حتى البسطاء قد يفتح الله لهم ببركة إخلاصهم نورًا. وقد ورد عن الإمام الصادق «كتاب الله عز وجل على أربعة أشياء: على العبارة، والإشارة، واللطائف، والحقائق؛ فالعبارة للعوام، والإشارة للخواص، واللطائف للأولياء، والحقائق للأنبياء. [12] »

وتبني الإنسانية، فهي نعم المبنى في دنيانا، ونِعم الزاد في آخرتنا. وقد ورد عن نبينا الأعظم ﷺ «الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء» [13] 

[1]  كشكول البهائي العاملي - ج 1 ص 112

[2]  سورة المائدة 38

[3]  https://www.youtube.com/@LamasatBayania

[4]  بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج 95 - الصفحة 120

[5]  سفير لدولة الكويت الشقيقة في العديد من الدول العربية والأجنبية منها الأردن والمغرب وإسبانيا

[6]  https://www.youtube.com/watch?v=52gJ2Pp9vw4

[7]  صاحب أول مصنع البان في المملكة العربية السعودية

[8]  https://www.youtube.com/watch?v=Vrw5BZ-nXx0

[9]  صفحة 17 https://www.saffar.org/?act=books&action=view&id=34

[10]  وسائل الشيعة «آل البيت» - الحر العاملي - ج 15 - الصفحة 66

[11]  شرح نهج البلاغة - ابن أبي الحديد - ج 2 - الصفحة 74

[12]  بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج 89 - الصفحة 103

[13]  سنن الترمذي - الترمذي - ج 3 - الصفحة 217