الكتابة.. بين الضوء الحقيقي والبرق
قبل أيام قليلة أرسلت ”صحيفة جهات الإخبارية“ رسالة جماعية إلى جميع الكتّاب المنتسبين إليها محذرة من اكتشافها قيام البعض بكتابة مقالاتهم بواسطة الذكاء الاصطناعي!
في البداية يسرني أن أتقدم بجزيل الشكر إلى إدارة الصحيفة وذلك لاهتمامها الكبير بمصداقية ما تنشر، وحرصها على حماية صفحاتها من أن تكون أحد الأبواب المجانية لمن يبحث عن ضوء غير مستحق أو شهرة مصطنعة.
إن الكاتب الحقيقي في الواقع يستشعر روح المسؤولية تجاه ما يكتب وهو بذلك لا يملك هدفًا أسمى من الكتابة نفسها بعيدًا عن أي تبعات أخرى قد تنتج عن هذا الهدف كأن يحقق شهرة واسعة، أو يحصل على عوائد مالية كبيرة إلى غيرها من الأمور التي قد تكون لدى البعض هي الهدف الأساسي وليس الكتابة بحد ذاتها وهذا ما يدفعهم إلى اللجوء إلى طرق مختصرة لصناعة أسماؤهم ومن أكثر هذه الطرق شيوعًا الآن ”الذكاء الاصطناعي“ فهو يقدم المادة المطلوبة في ثواني معدودة إلا أن من يعتمد عليه لا يدرك أن هذه الثواني البسيطة لا تخدمه ولا تختصر عليه الوقت والجهد بقدر ما هي في الحقيقة تجمّد لديه القدرة على التفكير، والإبداع، والمحاولة التي من شأنها أن تخلق منه كاتبًا حقيقيًا في يوم من الأيام. وهنا لا يقتصر الحديث على كتابة المقالات فقط لكنه يشمل مختلف أوجه الكتابة الإبداعية.
في السابق حتى بعض ”السرقات الأدبية“ كانت تتضمن شيئاً من الإبداع والجهد كأن يقوم شخص ما باقتباس فكرة عمل فني أجنبي وترجمته إلى العربية مع تغيير أسماء الشخصيات بما يتناسب مع البيئة المحيطة به وفي المحصلة النهائية ينسب هذا العمل إلى نفسه من دون أي إشارة إلى العمل الأساسي. ولا أخفيكم أن هناك كتاّب يعتبرون اليوم من أبرز الأسماء الأدبية في عالمنا العربي كانت بداياتهم بهذه الطريقة!
في خمسينات القرن الماضي عمل الكاتب المصري الكبير ”أحمد رشدي صالح“ على تخصيص حلقات نقدية عبر صحيفة ”الجمهورية“ لمناقشة مثل هذه السرقات حيث كان يضع مقارنة توضح التطابق الكبير بين مسرحيتين أو كتابين أحدهما يحمل الفكرة الأصلية والآخر يكون اقتباسًا لذات الفكرة مع بعض التغييرات ومن بين الأسماء الكبيرة التي التقطتها آلته النقدية الأديب الكبير ”توفيق الحكيم“!
وهنا قد يتعذّر اليوم من يلجأ إلى الذكاء الاصطناعي بكونه لا يسرق مجهود شخص آخر وينسبه إلى نفسه كما يحصل في موضوع السرقات الأدبية، ولكن في واقع الأمر كلاهما يفتقران إلى الإبداع الذاتي والمهارة الشخصية.
ولا أقصد بالمهارة هنا القدرة اللغوية والفكرية التي تقود إلى إنتاج مادة مكتوبة تكون سليمة البناء فقط، بل أعني مهارة انتقاء ما تكتب من موضوعات نافعة للغير، مهارة أن يكون مصدر إلهامك الكبير مِن أضعف الناس وأفقرهم وليس مَن تدور حولهم دوائر الضوء؛ لأن هؤلاء في غنى عن الروح التي يكتب بها قلمك، مهارة أن تلتفت إلى جودة العقول التي تقرأ لك وليس إلى عددها.
الكتابة في عمقها ليست رفاهية أبدًا ومن يبحث عنها من هذا الطريق فهو في المسار الخاطئ؛ لأن الضوء الساطع الذي يأتي سريعًا قد لا يعدو كونه مجرد ”برق“!