آخر تحديث: 18 / 10 / 2025م - 8:33 م

حين تستعيد المدن توازنها

ياسين آل خليل

كل مدينة تحتاج إلى لحظة هدوء، تماما كما الإنسان يبحث عن الطبيعة، لأنه هو الآخر يجد ضالته فيها، فهي ملاذه الأول ومأواه الأخير. في القطيف، تبدو الحاجة إلى الحدائق العامة ضرورة تعيد للمدينة توازنها، وللإنسان صحته وطمأنينته، وللمجتمع عافيته من ضغوط الحياة وأمراضها.

وسط صخب المدن وضجيجها، تبقى الحديقة العامة أكثر من مجرد مساحة خضراء، لأنها الرئة التي تتنفس منها المدينة، والمنفذ الذي يستعيد فيه الإنسان شيئًا من صفائه الذي سرقته الحياة المعاصرة.

لقد أدرك مهندسو المدن أن المباني الخرسانية مهما بلغت من فخامة، فإنها لا تشبع حاجة الروح ولا تداوي تعب الجسد. لذلك جعلوا للحدائق نصيبًا في قلب المخططات العمرانية، إدراكًا منهم أن الإنسان المعاصر يحتاج، هو وأسرته، إلى مكان يمنحه الراحة والهدوء بعد يوم طويل من العمل والدراسة وضغوط الحياة.

الحدائق ضرورة إنسانية، حيث أنها تُسهم في تحسين جودة الحياة كما الهواء، وتخفف من درجات الحرارة الملتهبة، وتقلل من التلوث البصري، كما أنها في الوقت نفسه تمد الروح بالقوة قبل الجسد. يكفي أن يجلس الفرد بين الأشجار أو يسير في ممر أخضر ليجد أن القلق بدأ يتلاشى تدريجيا، وأن ضغط الحياة اليومية قد تراجع أمام لحظة صفاء نادرة.

الدراسات الحديثة أثبتت أن قضاء الوقت في الحدائق يقلل من معدلات التوتر والاكتئاب، ويُحسّن المزاج العام، بل ويُسهم في تعزيز القدرات الذهنية والإبداعية. أما على المستوى الجسدي، فهي تشجع الناس على المشي، والركض، وممارسة الرياضة الخفيفة، وهو ما ينعكس مباشرة على الصحة العامة.

من الطبيعي أن تؤدي هذه الممارسات والنتائج إلى انخفاض معدلات الإصابة بالأمراض المزمنة المرتبطة بنمط الحياة، كالسمنة والسكري وارتفاع ضغط الدم، الأمر الذي يخفف بدوره من ضغط الزيارات على المستشفيات، ويقلل من تكلفة الرعاية الصحية على الأفراد والدولة، ويجعل الحاجة إلى مراجعة الطبيب أقل إلحاحًا، طالما أن الحماية متوفرة في بيئة خضراء يسهل الوصول إليها.

الأمر ليس مقتصرا على الفرد فقط، بل يتجاوزه إلى المجتمع كله. فالمتنزهات تشكّل فضاءً عامًا يلتقي فيه الناس من مختلف الأعمار والفئات، يتبادلون فيها الأحاديث ويحيون من خلالها روابطهم الاجتماعية بعيدًا عن عزلتهم الرقمية. إنها مساحات تنسج خيوط الألفة بين الناس، وتعيد للأواصر الإنسانية شيئًا من دفئ الأيام الماضية.

في عالمنا اليوم، نجد أمثلة مضيئة تؤكد ذلك. فسنغافورة، التي تُلقب بـ ”المدينة - الحديقة“، جعلت من المساحات الخضراء جزءًا من هويتها، حتى غدت الحدائق تحتضن المباني في تناغم بديع، وأصبحت رمزًا للمدينة العصرية التي لم تنسَ حاجتها إلى الطبيعة.

وما نراه في مدن العالم، التي جعلت من المساحات الخضراء جزءًا من روحها العمرانية، يمكن أن يكون حافزًا لنا في المنطقة الشرقية من مملكتنا الغالية، ولا سيما في محافظة القطيف، حيث يفتقر الناس إلى حدائق عامة ومتنزهات تليق بإنسان هذا الجيل. إن وجود هذه المشاريع بات ضرورة تُعزز الصحة الجسدية، وتبعث على الراحة النفسية، وتفتح آفاقًا أرحب للتواصل الاجتماعي بعيدا عن وسائل التواصل الرقمية الحديثة.

فالمدن التي تمنح أهلها فسحة خضراء، إنما تمنحهم في الحقيقة حياةً أرقى، وذاكرة أجمل، وتوازنًا هم في أشد الحاجة إليه، في زمن تتسارع فيه الضغوطات والمتغيرات الحياتية.