آخر تحديث: 18 / 10 / 2025م - 8:33 م

حافيةَ القَدَمَيْنِ

نجفيه حماده *

أَسْدَلَتْ سِتارَ رِحلتِها مُعلِنَةً سَرِقَةَ كُلِّ السَّعادَةِ وبَقايا أَحْلامِها، خَسِرَتْ في آخِرِ مَعارِكِها وما تَبَقّى مِن قُوَّتِها، رَكِبَتْ سَيّارَتَها تَسيرُ على غَيرِ هُدىً، ودموعُها تَنْهَمِرُ وأَفكارُها مُبَعْثَرَةٌ.

أَوْقَفَتْ سَيّارَتَها، وإذا بها تَرى زُرْقَةَ البَحرِ مِن بَعيدٍ، نَزَلَتْ تَتَرَنَّحُ في خُطُواتِها مُثْقَلَةَ الرُّوحِ، مُنْحَنِيَةَ الظَّهْرِ، أَنْفاسُها المُتَقَطِّعَةُ تَنْهَشُ في خَلَجاتِها، ولا تَعْلَمُ كيفَ جَلَسَتْ على رِمالِ الشاطِئِ.

رُؤْيَتُها الضَّبابِيَّةُ لم تُرِها زُرْقَةَ الماءِ، وكأنَّ بينَها وبينَ العالَمِ صُنْدوقًا زُجاجِيًّا مَتينًا. أَسْبَلَتْ أَجْفانَها قَليلًا لِتُخْمِدَ حَرائِقَ عالَمِها، طَفَحَ بها الوَجَعُ، فقد خَذَلَها القَريبُ والصَّديقُ.

سَلْوى ذاتُ الأربعِ والعِشرينَ عامًا، شابَّةٌ في مُقْتَبَلِ عُمرِها، خَطَفَ مِنها الحُزْنُ أُهْزوجَةَ عُمرِها الجَميلِ. ماتَ والِداها وهي طِفْلَةٌ، وعاشَتْ في رُبوعِ إخْوَتِها تُرَبِّي أَبْناءَهُم وتَخْدِمُ نِساءَهُم. لَدَيْها طاقَةٌ نابِضَةٌ، ولكنْ لم تُنْصِفْها الحَياةُ.

لم تُكْمِلْ دِراسَتَها في البِدايَةِ، ولكنَّها لَحِقَتْ بِطُموحِها عَنانَ السَّماءِ، إلى أنْ تَخَرَّجَتْ بِامتِيازٍ. طَريقُها وَعِرٌ، ولكنَّها لم تُراهِنْ على قُوَّتِها وثَباتِها لَحْظَةً، إلى أنْ حُورِبَتْ في عَمَلِها، حتّى تَدْبيرِ المَكائِدِ لها وفَصْلِها مِن وَظيفَةِ أَحْلامِها، وهذه كانت آخِرَ المَعارِكِ.

صَخْرَةٌ مُسِنَّةٌ حَفَرَتْ في وِجْدانِها لِتُخْفِيَ السَّعادَةَ في أَرْكانِ أَيّامِها، ارْتَطَمَتْ بها رِياحُ الهَشيمِ بِقُوَّتِها الجارِفَةِ لِتُوصِلَها إلى أَمْواجِ البَحرِ.

كانَ حَوْلَها امرأةٌ تَتَراقَصُ في مِشْيَتِها حافيةَ القَدَمَيْنِ، صَغيرةَ الرُّوحِ، كَبيرةَ العُمرِ. الْتَفَتَتْ سَلْوى بِخِفَّةٍ لها، على الرُّغْمِ مِن سَحْقَةِ الرُّوحِ الجارِفَةِ في أَعْماقِها، إلّا أنَّ هذهِ المرأةَ لَفَتَتِ انْتِباهَها. يَقْتَرِبُ مِنها الطَّيْرُ بِغَيْرِ خَوْفٍ، حتّى ظَنَّتْ أَنَّها لَيْسَتْ بَشَرِيَّةً.

شاحَتْ إلى زُرْقَةِ البَحرِ، ولكنَّها تُحَلِّقُ في سَماءِ الألَمِ المُتَكَدِّسِ في رُوحِها. اقْتَرَبَتْ حافيةُ القَدَمَيْنِ، تَنْظُرُ لها، وأَرْدَفَتْ بالحديث:

حافيةُ القَدَمَيْنِ: ”ما بالُكِ صَغيرَتي؟! لا تَشُدِّي كثيرًا، فَتَنْقَطِعَ مِنكِ حِبالُ الأملِ.“

سَلْوى: ”ماذا تَقْصِدين؟“

فَدارَ الحديثُ بينَهُما...

حافيةُ القَدَمَيْنِ: ”صَغيرَتي، لا أُريدُ التَّدَخُّل، ولكنَّكِ صَغيرَةُ العُمرِ، مُثْقَلَةُ الرُّوحِ، كَفاكِ. فقد فَقَدْتُ ثلاثةَ أَبْناءٍ بِمِثْلِ عُمْرِكِ، وما زِلْتُ ثابِتَةً، حتّى أَدْعو لهم وأُرَبِّي أَطْفالَهُم.“

سَلْوى «مُكفكِفَةً دُموعَها»: ”ثَلاثَةُ أَبْناءٍ!! كانَ اللهُ في عَوْنِكِ، ما هذا الثَّباتُ وما هذهِ القُوَّةُ؟!“

حافيةُ القَدَمَيْنِ: ”خَلْفَ كُلِّ ابْتِلاءٍ، وإنْ كانَ عَظيمًا، خَيْرٌ كَبيرٌ.“

سَلْوى: ”أَفي الفَقْدِ خَيْرٌ؟!“

حافيةُ القَدَمَيْنِ: ”كُلُّ ما يَأْتي مِن اللهِ خَيْرٌ، والخِيرَةُ إنْ لم أَرَها في الدُّنْيا، سَأَرَى ثِمارَها في الآخِرَةِ، ما الدُّنْيا إلّا دَيْنٌ يا عَزيزَتي.“

سَلْوى: ”وَدِدْتُ لو أَنَّني أَرْجِعُ بالزَّمَنِ إلى الوَراءِ، لأَرَى والِدَيَّ، وأَشْكِي لهُما ما حَلَّ بي مِن وَجَعٍ، وأنَّني لم أَرَ التَّوْفيقَ يَوْمًا.“

حافيةُ القَدَمَيْنِ: ”كَفاكِ نَحيبًا يا عَزيزَتي، يَطالُ الجَميعَ ما يُطالُكِ مِن أَلَمٍ، ولكنْ، هل سَتَنْجَحينَ كما نَجَحوا؟ فَنُدوبُكِ الدّاخِلِيَّةُ هي ثَباتُكِ.“

سَلْوى: ”كَيْفَ سَأَعيشُ ما تَبَقّى مِن عُمْري؟“

حافيةُ القَدَمَيْنِ: ”سَتَمُرُّ، ثِقي بِذلِكِ، وسَتَكونُ ذِكرى مُضِيئَةً تُقَوِّي عَزيمَتَكِ وتُرْشِدُكِ، مُتَأَكِّدَةٌ مِن ذلِك.“

سَلْوى: ”كَيْفَ لَكِ أَنْ تَكوني واثِقَةً تَمامًا؟“

حافيةُ القَدَمَيْنِ: ”الإيمانُ والطُّمَأنينَةُ، واللهُ مَعي. لا أُريدُ مَعْرِفَةَ ما حَلَّ بِكِ، ولكنْ كُلُّ الّذي حَلَّ دَرْسٌ قاسٍ شَدَّكِ، وجَعَلَ مَعارِكَكِ القادِمَةَ سَهْلَةً يَسيرَةً، وهي الشَّمْعَةُ المُضِيئَةُ في ظَلامِ أَيّامِكِ. إلى لِقاءٍ آخَرَ يا عَزيزَتي، وفي المَرّةِ القادِمَةِ سَتَأْتينَ إلى هُنا وأَنْتِ حافيةَ القَدَمَيْنِ، تَزْرَعينَ الوَرْدَ والوُدَّ، فَقَطْ، لِتُرِيحي أَجْفانَكِ.“

سَلْوى: ”إلى اللِّقاءِ، وشُكرًا لَكِ.“

رَحَلَتْ حافيةَ القَدَمَيْن، ولكن ظلَّها سكنَ فُؤادَ سلوى وأزجى الرُّوحَ قوّتَها الجارفة. ردّتْ لها فجأةً، ولا تعلم: أَهُوَ حُلْمٌ مرَّ أم واقع؟ طمأنينةٌ غريبةٌ سكنتْ خَلَجاتِها، واستوحدتْ بكِيانِها.

الرّسائلُ العميقةُ من تلك المرأةِ حافيةِ القَدَمَيْن... وقفتْ لاتخاذِ قرارٍ صارمٍ: «إمّا أن أُكمِلَ ما بدأته لأَنجو وأَنجح، أو أن أعيشَ دورَ الضّحيةِ الخرساءِ وألوذَ في زوايا الألم، وأتشبّثَ بما تبقّى من نفسي».

ضربتْ كفًّا بكفٍّ لِتصحو وتَنجو. لملمتْ نفسَها ومضتْ مُعلنةً بدايةً جديدة. تصحو كلّ يومٍ بطمأنينةٍ بأنّ القادمَ خير. استسلمتْ، وسلّمتْ بأمرِها، فتوالتْ عليها الخيراتُ مُشرَعةً. وأصبحتْ تذهبُ كلَّ يومٍ إلى الشاطئِ حافيةَ القَدَمَيْن، لتَزرعَ ما زُرِعَ في كِيانِها.

جاءتْ حافيةُ القَدَمَيْن، لترويَ لنا السعادةَ بالنِّعَمِ حولنا - وإنْ كانت بسيطة - وبأنّ أقدارَنا نحن مَن نَصنَعُها، وباليقينِ نَصِل.

سلوى ليستْ مجرّدَ شخصية، بل هي مرآةٌ لكلِّ مَن مرَّ بانكسار، لكلِّ مَن ظنَّ أنّ الحياةَ قد أغلقتْ أبوابَها، ثمّ اكتشفَ أنّ في داخله بابًا لم يُطرَق بعد. وحافيةُ القَدَمَيْن ليستْ فقط امرأةً غريبةَ الأطوار، بل هي رمزٌ للثبات، للطُّمأنينة، وللرّسائلِ التي تَصلُنا حين نكون على شفيرِ الانهيار.

فهل ستحلّقُ روحُك وتَصقُلُها، لتكونَ ”حافي“ أو ”حافيةَ القَدَمَيْن“ التالي؟!