آخر تحديث: 18 / 10 / 2025م - 8:33 م

صدى ما بين السطور

بدرية حمدان

كل كاتب يحمل في داخله ”كفاية“ ما صوتًا خفيًّا يوازن بين المنطق والعاطفة، بين الحرف الذي يُقال، والحرف الذي يُؤجل، ليست ”كفاية“ امرأة بالضرورة، بل حالة، أو صدى، أو ذاكرة تختبئ بين السطور.

حين يغيب هذا الصوت، يفقد الكاتب شيئًا من ذاته، من صدقه، من وهجه الأول، لكن اللقاء به مجددًا، ليس دائمًا عودة، بل ولادة جديدة ووجه آخر للحقيقة.

في كل مرة أكتب، كانت تظهر،

كفاية، لم تكن فكرةً عابرة، ولا خيالًا استدعاه القلم، كانت حضوري الصامت، ظل الحرف، النفس الذي يتسلل بين السطور دون إذن.

كنت أظنها، ملكي وحدي، جزءًا من طريقتي في فهم للأشياء والعالم من حولي، لكنها كانت شيئًا أبعد من المنطق، كانت نبضي الذي لا أفهمه، تمشي بين السطور ككائن حي مكتمل بصوتها الخاص ونضالها الداخلي.

خلاف بسيط، لا يُذكر، مزق بيننا خيطًا رفيعًا، مجرد اختلاف في وجهات النظر،

أنا أردت أن أكتب من زاويتي، بمنطقي، بحريتي.

أما هي فكانت تريد فقط أن تُسمع، أن تُفهم كما هي، لا كما أريد لها أن تكون.

قلت لها يومًا بحدةٍ لم أقصدها ”اسكتي، ودعيني أكتب.“

فسكتت، لكن صمتها لم يكن هدوءًا، بل كان انسحابًا.

تتابعت الأيام، وواصلت الكتابة، لكن كل شيء تغير. الكلمات أصبحت باهتة، النصوص ميتة لا حياة فيها، الحروف بلا روح، شيء ناقص، شيئًا ما ناقصًا، ظلّها لم يعد يرافقني، هدنة استمرت طويلا بيننا.

لكن في ذات مساء بعيد، عدت إلى دفتري القديم، ذلك الذي سكنته كفاية طويلًا، قلبت صفحاته ببطء، ففاحت منه رائحة البدايات، حيث كانت كل كلمة تنبض بها، حيث كانت الحروف تتجاوز القواعد لتلامس الحياة،

حينها فقط أدركت كم اشتقت إلى صوتها.

جلست أتأمل الصفحات مطولاً وقلت بصوت خافت خجول يشبه الندم ”كفاية“ عودي لي، أعدك أن أستمع إليك.

وبين الحبر والورق، ظهرت لكنها لم تعد كما كانت،

كانت متعبة، شاحبة، في عينيها رماد البُعد وكسور الصمت، لم تقل الكثير، فقط همست بقولها "تعلمت أن أكون ظلاً، لأنك أردتني أن أكون لك فقط، نسيتِ أنني أنا أيضا حية.

سكتُ، والخجل يثقل الكلمات.

قلت لها، لم أتخيل أنكِ ستتنازلين عن ذاتك.

فأجابت، أنا لم أتنازل، أنا فقط تعبت من أن أكون وحدي في كل معركة.

ثم نهضت، من بين السطور واتجهت نحو نهاية السطر الأخير.

توقفت عند نقطة النهاية، وكأنها تحاول المغادرة، والتفتت نحوي بعينين تشبهان الاعتذار والعتب معًا، وقالت: "إن أردتِ أن أكتب معكِ من جديد، لا تجعلني ظلاً، دعني أكون صوتًا كاملاً، وإن لم تقدري، دعني أذهب.

ولأول مرة، لم أمنعها، تركت الدفتر مفتوحًا، وأمسكتٌ بالقلم، هذه المرة، لم أكتب عنها بل بها، صوتها صار حاضرًا، وصراعها بداخلي صار واقعًا.

لم تكن هي من عادت، بل كنت أنا من وُلد من جديد في الكتابة، تعلمت بفضلها فن القيادة، والإخراج، وتحريك الشخصيات، أنا مدينة لكفاية.