آخر تحديث: 18 / 10 / 2025م - 5:43 م

تقدم العمر وعدد الأصدقاء

المهندس أمير الصالح *

إهداء: أهدي هذا المقال لأبنائي ولأصدقائي القدامى والجدد.

أبتسم عندما أسترجع بعض ذكرياتي في موضوع علاقتي ببعض الأصدقاء، وجنون التعلق بهم عندما كنت في مقتبل العمر؛ تكرار فراري من الحصص المدرسية معهم، والتجول في الأسواق، وتفضيل أكل ساندويتش الفلافل معهم على أكل طعام المنزل مع الوالدين يومذاك. وحب التسكع معهم في الشوارع على الجلوس بالمنزل والتحضير لاختبارات المدرسة الفصلية.

وأتأمل الآن ما آل إليه الوضع لتلكم العلاقة مع البعض منهم، لاسيما مع تقدم الزمن بنا وتناثرنا في الأرض وتفاوت طبيعة وظائفنا وتنوع حجم أعداد أولادنا. وأستحضر نصائح والدي، أدام الله بركاته، لي في تصويب وقتي وتركيز جهدي على الدراسة والعمل والارتباط بالأسرة، مع ضرورة الاعتدال في ضبط العواطف نحو الأصدقاء. كبرت واستوعبت معظم حقائق تلكم النصائح الطيبة، وإن كنت بحمد الله محاطًا حينذاك بأصدقاء أوفياء وأتقياء؛ فلهم مني سلام وتحية وأبعث الأشواق.

حديثًا قرأت بحثًا عن علاقة الصداقة والتغيرات التي تحدث لها مع تقدم العمر. وكانت دراسة محط إعجاب مني للباحثين، فأحببت أن أكتب مقالًا عنها.

لاحظت أن دائرة صداقاتي المقرّبة والخاصة تصغر مع تقدم عمري، ليس بسبب رحيل البعض منهم، ولكن لتغير اهتماماتي واهتماماتهم، وموقعي المهني والسكني، وتمرجح مستواي المالي والرياضي، وتغير معدل منسوب مشاركاتي ومبادراتي الاجتماعية كما هم. في بعض الفترات أتذكر أني كنت فيها محاطًا بعدد كبير جدًا من الأصدقاء، إلا أنه ومع مرور الوقت تقلص العدد إلى أقل من عشرة أشخاص، وأتنبأ مستقبلًا بأن العدد سيكون في محور ثلاثة أشخاص فقط، بينما تحول البقية إلى مجرد أصحاب ذوي علاقات سطحية، أو مجاملات، أو سراب ذكريات، أو عابري سبيل، أو علاقة تعاقدية مالية في نطاق تقديم خدمة أو وساطة أو إدارة مالية؛ هذا وأنا ما أزال في كامل عافيتي، ولله الحمد، وعمري يلامس الستين، وأذهب لأماكن تجمع الناس، وأزور المرضى، وأتنقل بين المدن، وأشارك الناس أفراحهم وأتراحهم.

الصداقة الصادقة لها عدة وظائف أو معان أساسية، وقد يكون عدم استيفاء بعضها وتحققها هو ما يجعل بعض الناس نبتعد عن البعض.

ومن تلكم الوظائف الأساسية:

• الأمان العاطفي «Emotional security»، خصوصًا عند المرور بتجارب صعبة أو نكبات قاهرة.

• تحقيق الذات «Self-validation»، أي أن أجد من يفهمني ويتوافق مع مبادئي ومعتقداتي دون شرح أو جدال أو استفزاز أو ضيق خلق «anxiety» أو خوف أو توجس.

• التقارب والمشاركة «Intimacy»، وهي القدرة على مشاركة الأمور الحساسة بصدق وأمان وطمأنينة.

ومن الضروري جدًا أن تكون للفرد مرونة نفسية لتجاوز هكذا تغير مع تقدم العمر وقلة المحيطين به من الأصدقاء المميزين. فإن الإنسان الأكثر نجاحًا في الحياة هو الأكثر مرونة لمتغيراتها؛ من الصحة النفسية أن نتعلم كيف نتجاوز صدمات تغير الأحوال، لا أن نعممها على بقية حياة الإنسان والانسحاب.

أكتفي بهذا القدر، ولمن يهتم بالدراسات البحثية في هذا المضمار، أشير إلى الاطلاع على الدراسة التي تصفحت بعض جوانبها: frontiersin.org/journals/psych

للشباب رسالة مفادها ما قاله أحدهم:

«أتمنى أن أجيد إعراب ”الناس“ كما أجيد إعراب حروف اللغة العربية، فلا أرفع إلا العظيم، ولا أضم إلا الصديق، وأميز صحيح البشر ممن في نفسه علة! فلو أني أتقنت إعرابهم من البداية لما أضحت سنيني مضافة إلى سنين من الألم، لكن الناس تأبى إلا أن تكون مبنية للمجهول، معطوفة على التوهم، مستترة لا تقدير لها!»

الخلاصة:

كلما كبرنا، كلما فهمنا - أو فهم الأغلب منا - أن الصداقات الثمينة تدوم بجودتها، لا بكثرتها. فاحرص على الجودة أكثر من الكم في العلاقات. وكلما كبرنا سنًا، كلما احتجنا إلى من يحيطون بنا ممن نحبهم ويحبوننا.