آخر تحديث: 18 / 10 / 2025م - 8:33 م

المحتوى بين الحرية والمسؤولية

دكتورة لمياء عبدالمحسن البراهيم * صحيفة اليوم

لم تعد الشهرة اليوم مرتبطة بالإنجاز، ولا النجاح بالتميّز، بل أصبحت الخوارزميات هي من تقرر من يظهر ومن يُنسى. وفي خضم هذا الواقع الرقمي المتسارع، ظهرت فئة من المشاهير الذين بنوا حضورهم لا على فكرة أو رسالة، بل على كشف الخصوصيات وتحويل الحياة الشخصية إلى مسلسل يومي يُبث على الملأ، حتى غابت الخطوط الفاصلة بين التعبير والابتذال، وبين الحرية والانكشاف.

من الإنصاف القول إن الشهرة أصبحت في عصر المنصات مهنة لها اقتصادها وسوقها ومؤسساتها، بل وحتى احترامها الاجتماعي. فكثير من المشاهير يعتمدون على هذا المجال كمصدر رزق رئيسي، والجهات الإعلانية تنظر إليهم بعدد مشاهداتهم وتأثيرهم، لأن السوق يقيس النجاح بالأرقام لا بالأفكار. ومن الطبيعي أن يسعى هؤلاء لتوسيع جماهيرهم وإبقاء أسمائهم في دائرة الضوء، خاصة في بيئة تنافسية شرسة، حيث المشاهدات تساوي الدخل، والغياب عن «الترند» يعني الخسارة.

لكن حين تتحول تفاصيل الحياة الزوجية أو مراحل الحمل والولادة إلى مشاهد قابلة للتداول والتحليل من الجميع - رجالًا ونساءً - فهنا نتجاوز حدود ”المحتوى“ إلى منطقة الانكشاف الممنهج الذي لا يخدم لا الفرد ولا المجتمع.

لم تعد المسألة مجرد تعبير عن الذات، بل أصبحت استثمارًا في الحياة الخاصة، ومادة تسويقية مربحة لمن يجيد إدارة الفضول العام.

والأدهى من ذلك أن بعض الحسابات والمشاهير يتعاونون فيما بينهم، يتبادلون الهجوم والتعاطف والجدل المفتعل كوسيلة تسويق متبادل، في مشهد أشبه بإنتاج درامي مقصود: سيناريوهات مكتوبة مسبقًا، جمهور متفاعل، وخاتمة محسوبة بعناية.

هؤلاء لم يفرضوا أنفسهم على الجمهور قسرًا، بل الناس منحتهم هذه المساحة.

وهنا لا بد أن نعترف أن المسؤولية مشتركة: المؤثر يقدّم ما يجد عليه تفاعلًا، والجمهور يواصل المتابعة، حتى صار بعض المتابعين - رجالًا ونساءً، صغارًا وكبارًا - يعرفون أدق تفاصيل حياة هؤلاء المشاهير، يتحدثون عنهم كما يتحدثون عن أقربائهم.

لم تعد المتابعة هنا بدافع الإعجاب، بل بدافع الفضول أو التسلية، إلى أن تحولت «الدراما الشخصية» إلى عادة جماعية ومشهد يومي مألوف.

من الخطأ أن نحمّل المسؤولية لطرف واحد. فالمؤثر يلاحق رزقه، والجمهور حر في اختياره، والمنصات التجارية بطبيعتها تبحث عن الربح.

لكن حين تؤثر هذه المنظومة الثلاثية على القيم والوعي العام، يصبح من الواجب الجهات التنظيمية والإعلامية أن تتدخل لتعيد التوازن بين الحرية والمسؤولية.

وقد قامت هيئة تنظيم الإعلام مشكورة بجهود واضحة في المتابعة والتنظيم، لكن سرعة التطور الرقمي تستدعي تحديثًا مستمرًا في أدواتها وآلياتها، لتواكب نوعية جديدة من «المحتوى الشخصي التجاري» الذي لا تصنّفه القوانين الحالية بدقة.

المرحلة المقبلة تتطلب مقاربة جديدة

تحديث تصنيفات المحتوى لتشمل نوعًا جديدًا يُعرف ب»المحتوى الشخصي الممول»، بحيث يلتزم أصحابه بوسم واضح يوضح إن كانت المقاطع مدفوعة أو معدّة لأغراض تسويقية.

تفعيل خوارزميات محلية مسؤولة تحدّ من انتشار المقاطع التي تحتوي مشاهد خاصة أو حميمية، وتمنح الأولوية للمحتوى الثقافي والتنموي، دعمًا لتوجهات رؤية 2030 في «تعزيز المحتوى المحلي المسؤول».

إطلاق حملات توعوية موجهة لجميع الفئات العمرية، لأن التأثير لم يعد مقتصرًا على الشباب، بل امتد إلى الكبار والنساء وربات البيوت اللواتي يتعاملن مع المشاهير كما لو كانوا أبطال مسلسلات واقعية.

في النهاية، لست ضد الشهرة، ولا ضد من اختار الإعلام الرقمي مصدر رزق له. بل على العكس، كثير منهم أسهم في نشر الوعي والتثقيف المجتمعي، واستطاع أن يقدّم نموذجًا ناجحًا للتأثير الإيجابي.

لكن الشهرة تفقد قيمتها عندما تتحول إلى وسيلة لاستعراض الخصوصيات، وتُختزل حياة الإنسان في محتوى قابل للقياس والمشاهدة.

الحرية حق، لكنها لا تبرر الانكشاف.

والمسؤولية واجب، لكنها لا تلغي الإبداع.

وبين هذين الحدّين، يبرز الدور المحوري لوزارة الإعلام وهيئة تنظيم الإعلام في رسم توازن جديد يحمي الذوق العام ويصون كرامة الإنسان.

استشارية طب أسرة
مستشار الجودة وسلامة المرضى
مستشار التخطيط والتميز المؤسسي
كاتبة رأي