أنفاس متلاحقة «2»
ورد عن أمير المؤمنين : «نَفَسُ الْمَرْءِ خُطَاهُ إِلَى أَجَلِهِ» [نهج البلاغة: الحكمة 65 ].
مع كل نَفَس يطلقه الإنسان يؤشر إلى العد التنازلي لعمره وتقدّمه لخطوات نحو خط النهاية، وهذه الحقيقة تفرض علينا تحمّل المسئولية تجاه المعيار الزمني وإدراك أهميته في مسار التقدم والإنجاز والتكامل، فرأس المال الزمني وطريقة التعاطي معه باهتمام أو قلته يكشف معالم شخصية الفرد والمساحة التي يحجزها لنفسه كقيمة وجودية، فكما أن هناك استثمارا ناجحا يدر الأرباح أو يجر الخسارة فكذلك بالنسبة للتعامل مع مسئولية الأوقات التي نقضيها وكيفية اغتنامها واستثمارها، ولن نجد طريقة تؤدي إلى تفعيل إدراك أهمية الوقت كمحاسبة النفس والوقوف أمام مرآة الذات وطرح التساؤلات عليها عن المحرك لأي خطوة أو فكرة، ولنتعامل بمبدأ الخسارة والربح مع أي آنٍ زمني نقطعه ومدى الاستفادة منه، فحين ينفق التاجر رأس ماله يتوقع عائدا وربحا وإن لم يحصل على مقابل يكون خاسرا، كذلك هو الإنسان في إنفاق عمره وما يجنيه من كل هذه اللحظات التي تمر عليه، فقد تتحول تلك القطعة الزمنية إلى مجموعة دروس معرفية اكتسبها من مطالعة كتاب أو استماع لحكيم، وقد تكون تجربة خاضها ويستطيع من خلال المخرجات جسّ نبض الفوائد والعوائد التي حصل عليها وأوجه التقصير والخطأ الذي وقع فيه، فإن الآفات وعوامل الهدم كالعبثية والعيش في منطقة الفراغ واللا هدفية لن يتمكن من التخلص منها إلا بعد بصيرة وإدراك بأهمية مسابقة رياح الزمن، وآفة التسويف وتأجيل الأعمال والواجبات الملقاة على عاتقه تضرب بقوة في همته وإرادته وهو ما يلقي بظلال ثقيلة على مسيرته في الحياة.
ينبهنا أمير المؤمنين للتدقيق والتعمق في أصغر وحدات زمنية «مجازا» وهي الأنفاس المتلاحقة وعملية الشهيق والزفير وتحويلها إلى منجزات وعطاء ومكتسبات معرفية وسلوكية واجتماعية، ومن بين كل الخيارات التي يمكن أن يجنيه الإنسان من استثمار وقته تأتي المعرفة في طليعة الخيارات، فهي مفتاح الوعي وأساس التغيير الإيجابي وجوهر الارتقاء، فالجهل يُبقي الإنسان في دائرة التكرار والمحاولات الخاطئة والدائرة المفرغة والمتاهات الإنسانية، وفي المقابل كل معلومة يكتسبها الإنسان تُنتج له وعيا وتفتح له أفقا وتدفعه إلى ما هو أسمى.
وأخطر ما يواجه الإنسان في رحلة استهلاك رأس ماله هو الغفلة والعيش بلا وعي وبلا هدف وبلا تأمل وبلا محاسبة، فالغفلة تُفرغ الزمن من قيمته ومن لا ينتبه إلى أنفاسه لن ينتبه إلى نهايته وسيصل إلى أجله بلا زاد ولا استعداد، فما هو المطلوب للاستنارة بهذه التحفة والتفاعل المؤثر معها في فكرنا وسلوكنا؟
عندما يتحول الوعي بهذه الحقيقة إلى برنامج حياة نرجع إليه لتصويب خطانا نكون قد استفدنا حق الاستفادة، وأن ينظر الإنسان إلى ساعاته وإلى جدول يومه وإلى طريقة إنفاقه لزمنه بنفس الطريقة التي ينظر بها التاجر إلى أمواله، فالنَّفَس هو الوحدة الدقيقة التي تكشف طبيعة ما نفعله وما نقدّمه، فإن كانت أنفاسنا خطوات نحو الأجل فلنحرص أن تكون خطوات واعية، فإن الخسارة في العمر لا يمكن تعويضها وهي الخسارة والفقدان الحقيقي.