آخر تحديث: 18 / 10 / 2025م - 8:33 م

الكون العادل: حين تنسخ الأقدار أفعالنا

سراج علي أبو السعود *

أظن أن الدنيا وأقدارها هي «ماث في ماث»؛ فكل شيء فيها يجري بدقة رياضية لا تقبل الاحتمال أو النقص. واحد زائد واحد يساوي اثنين، وهذه ليست إجابة نسبية يختلف عليها الناس، بل حقيقة بديهية. يشير ستيفن هوكينغ في «تاريخ موجز للزمان» إن معدل تمدد الكون بعد الانفجار العظيم كان مضبوطًا بدقة مذهلة؛ لو اختلّ بمقدارٍ ضئيلٍ لا يُكاد يُتصوَّر، لانهار الكون على نفسه أو تلاشى قبل أن يُوجد كما نعرفه اليوم. هذه الدقة الكونية ذاتها أراها في أقدارنا، فكل ما يجري صادر عن قانونٍ إلهي مطلقٍ لا يحتمل الخطأ أو النقص. إن العدالة الإلهية اكتمالٌ للنسبة، وبرهانٌ على خلوّ فعله من العبث.

أن تظلم شخصًا فاعلم يقينًا أن ظلمك سيرتدّ عليك وعلى نسلك. لست هنا لأبحث عن عللٍ لعواقب أكدها القرآن، لأنني ببساطة لا أعرف عللها. ما أعرفه هو قوله تعالى:

«وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا»، وقوله تعالى: «وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ». وفي دعاء كميل المروي عن أمير المؤمنين : «اللّهُمَّ اغْفِرْ لِي الذُّنُوبَ الَّتي تَهْتِكُ الْعِصَمَ، اَللّهُمَّ اغْفِرْ لِي الذُّنُوبَ الَّتي تُنْزِلُ النِّقَمَ، اَللّهُمَّ اغْفِرْ لِي الذُّنُوبَ الَّتي تُغَيِّرُ النِّعَمَ، اَللّهُمَّ اغْفِرْ لي الذُّنُوبَ الَّتي تَحْبِسُ الدُّعاءَ، اَللّهُمَّ اغْفِرْ لِي الذُّنُوبَ الَّتي تُنْزِلُ الْبَلاءَ». كما ورد عن الإمام الصادق : «ما من عرقٍ يضرب، ولا نكبةٍ، ولا صداعٍ، ولا مرضٍ، إلا بذنبٍ، وذلك قول الله عز وجل: «وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ…» وما يعفو الله أكثر مما يؤاخذ به». كل ذلك يعني أن الظالم، حين يظلم، إنما يرسم بيده عاقبته، شاء أم أبى. كأن الدنيا طابعة ثلاثية الأبعاد تنسخ للإنسان صورة فعله وتعيدها إليه في وقتها المعلوم. كما تدين تُدان. فلا تلعن الصدفة إن تعكّر يومك؛ فربما كان ما وقع محكومية على عمل لا بد من الاقتصاص فيه. الأمثلة في هذا السياق أكثر من أن تحصى، خذ مثلًا رجلًا استغلّ سلطته فظلم موظفًا بسيطًا، حطّم في داخله الأمان وأغلق أمامه باب رزقٍ هو أحقّ به. مرّت الأعوام، وارتقى الظالم في منصبه، حتى ابتُلي بولدٍ مريضٍ أنهك قلبه وماله، بينما ذلك الموظف المظلوم فُتحت له أبواب رزقٍ لا تخطر على بال. لم يربط الناس بين الحادثتين، لكن الله ربطهما بخيطٍ من عدله الذي لا يراه إلا من أبصر ببصيرة الإيمان. فكما أن الفعل لا يضيع في نظام الكون، كذلك لا يضيع في نظام الأقدار؛ كما تدين تُدان.

إن الحديث عن العدل لا يكتمل دون الحديث عن المظلوم، ذلك الذي يئنّ تحت ثقل الألم وهو يظن أن الله قد تأخر عنه. وما درى أن كل لحظةٍ من وجعه مكتوبة في سجلّ العدل الإلهي، تُحسب له لا عليه. إن الله لا يترك دمعة مظلومٍ دون جبر، ولا صرخة ألمٍ دون عوضٍ كريم. وربّ تأخيرٍ في النصر هو عين الرحمة، لأن الله يُمهل الظالم ليزداد استحقاقًا للقصاص، ويُهيّئ للمظلوم من التعويض ما لا يخطر له على بال. ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ، بل يُمهلهم بحكمته، حتى إذا جاء أجلهم أخذهم أخذ عزيزٍ مقتدر. فلتطمئن قلوب المظلومين، فالله الذي خلق الكون بدقة الذرة والنواة، لا يغفل عن دمعةٍ في عين ولا أنّةٍ في صدر. سيعوّضك في الدنيا أو الآخرة، وسيقتصّ لك ممن ظلمك قبل أن يُغلق كتاب الزمن. إن الأقدار أبوابٌ لا تُفتح إلا بمفاتيح الأعمال؛ فما كان صالحًا فتح خيرًا، وما كان طالحًا أغلق باب الرحمة والخير. اعمل بالأسباب وجاهد ما استطعت، لكن تيقّن أن النتائج تجري في نظامٍ إلهيٍ عادلٍ لا يظلم عباده مثقال ذرة، ومن ظلم غيره فقد اختار لنفسه أن يذوق من عدل الله ثمر ما زرعه بيده.