آخر تحديث: 18 / 10 / 2025م - 8:33 م

بدر القصيدة.. وسيد الحرف: الأمير الذي كتبنا ومضى

عاطف بن علي الأسود *

لطالما كان الشعر أكثر من مجرد كلمات تُقال أو تُغنّى، هو إحساس يُولد من عمق الروح ويتنفس بين السطور، وإذا أردنا أن نتحدث عن شاعر لم يكن فقط مبدعًا في صياغة الكلمة، بل صانعًا لمزاج وجداني لأجيالٍ كاملة، فإننا نتحدث عن الأمير بدر بن عبد المحسن، رحمه الله. هو ليس فقط أحد رموز الشعر النبطي في السعودية والخليج، بل علامة فارقة في الشعر العربي الحديث بكل تجلياته. لم يركن إلى التقليد، ولم يكتب ليتفاخر، بل كتب ليبوح، ليحب، ليحزن، ليغني، ليترك شيئًا من روحه في كل بيت شعري يكتبه. وربما هذه هي السر في محبته الطاغية عند الناس. لا يمكن أن تجد شخصًا مرّ على شعر بدر بن عبد المحسن مرورًا عابرًا، الكل يتوقف، الكل يصمت، الكل يتأمل، ثم يقع في حب تلك اللغة التي لا تشبه أحدًا، وتلك العاطفة التي تسكن الكلام دون أن تستأذن.

ولد الأمير الشاعر بدر بن عبد المحسن في بيت يحمل معاني الثقافة والذوق، فتفتحت روحه منذ الطفولة على سماع الشعر والنقاش والفكر، وكان ذلك بداية تشكّل نَفَس شعري نادر. لم تكن ثقافته محصورة ببيئته فقط، بل ارتحل في مراحل تعليمه إلى مصر ولبنان وبريطانيا وأمريكا، فعاد محمّلًا بتجربة إنسانية واسعة، تداخل فيها المحلي مع العالمي، والوجداني مع التأملي، والبدوي مع المدني. وقد منحته هذه التجربة قدرة مذهلة على الإمساك بتفاصيل الإنسان، البسيط منها والعميق، فكتب عن الحب كما لم يكتبه أحد، وعن الوطن كما لم يقترب منه شاعرٌ بهذه الشفافية، وعن الحنين كما لو أنه عاش ألف غياب.

ما يميز بدر بن عبد المحسن، رحمه الله، ليس فقط الكلمة، بل النَفَس الفني الكامل، هو شاعر يكتب كأنه يرسم، فليس غريبًا أنه فنان تشكيلي أيضًا. قصيدته ليست فقط مجموعة أبيات، بل هي لوحة متكاملة الألوان، فيها ظلّ وضوء، فيها لحن صامت، فيها قصة غير مكتملة، يترك نهايتها لقارئه أو مستمعه كي يُكملها بحسب تجربته. وهذا ما جعله قريبًا من الناس، رغم بُعده الطبقي كأمير، فهو نزل إلى العمق الإنساني لا إلى المنابر. ولذلك وجد فيه الناس صوتًا لهم، لا عليهم، وباتوا ينتظرون قصائده كما ينتظرون طقسًا جميلًا أو موسمًا موعودًا بالفرح.

في قصائده، لا يوجد خط فاصل بين العامي والفصيح، بين الشعر النبطي والشعر العربي، هو يكتب ما يُشبهه، ويبتكر قوالبه، لا يلتزم إلا بصوته الداخلي، ولذلك كانت قصائده صالحة للغناء كما للقراءة، للصمت كما للبكاء، للحب كما للحكمة. كلماتُه غنّاها كبار الفنانين من الخليج والعالم العربي، وكانت ولا تزال علامات فارقة في تاريخ الأغنية السعودية. لم يكن مجرد شاعر يزوّد المطربين بكلمات، بل كان يخلق لهم شخصيات غنائية، يجعل الأغنية تلبس هويته قبل أن يلبسها اللحن.

ولعل من أروع فصول حياة الأمير بدر بن عبد المحسن، رحمه الله، تلك العلاقة المتينة التي جمعته بالأمير الشاعر خالد الفيصل، علاقة لم تبنَ فقط على الدم والنسب، بل على الكلمة والإحساس، وعلى لغة الشعر التي وحدت بين روحين استثنائيتين. كانا شريكين في الحب العميق لهذا الوطن، في الإيمان بالجمال، في الإصرار على أن تكون القصيدة صوتًا راقياً يعكس ذائقة أمة وهوية شعب. تبادلا القصائد والاحترام والمواقف، وتنافسا في المحبة لا في الحضور، فكلٌّ منهما أدرك أن الآخر مرآة صادقة للقصيدة، وأن الشعر حين يكتبه خالد الفيصل أو بدر بن عبد المحسن فإنه لا يكون شعرًا عاديًا، بل قصيدة تحمل شرف الانتماء لمدرسة فريدة. كانت تجمعهما مشاعر صادقة، وكثيرًا ما ظهر ذلك في اللقاءات والأمسيات التي جمعت بينهما، حين كان كل واحدٍ منهما يثني على الآخر من القلب، لا من المجاملة. وحين يتحدث أحدهما عن الشعر، فلا بد أن يمر على تجربة صاحبه بكل اعتزاز، وكأنهما خطّا سطرين متوازيين في كتاب واحد اسمه القصيدة السعودية. تلك العلاقة لم تكن فقط علاقة شعراء، بل علاقة محبة، وفكر، وتقدير، أضافت للمشهد الثقافي كثيرًا من الهيبة والرقي.

إن بدر بن عبد المحسن، رحمه الله، لا يُقاس تأثيره بعدد القصائد أو الأغاني التي كُتبت، بل بما زرعه في وجدان الناس، وبقدرته العجيبة على اختراق الحواجز، والوصول إلى أعماق المتلقي، سواء كان عاشقًا، أو مغتربًا، أو حالمًا، أو حتى مجرد مستمع عابر يبحث عن لحظة صدق. محبته الجارفة في قلوب متابعيه وجمهوره لم تكن محض مصادفة، بل نتيجة سنوات طويلة من الإبداع، والوفاء للكلمة، والالتزام بالجمال في زمن بات فيه كل شيء سريعًا وعابرًا. هو ليس شاعر مرحلة، بل شاعر وجدان، وشاعر وطن، وشاعر إنسانية.

رحل الأمير بدر بن عبد المحسن، رحمه الله، لكن صوته باقٍ، ومفرداته تنبض في أذن كل محب للكلمة النقية. غاب الجسد، لكن بقي الشعر شاهداً، بقي اسمه محفورًا في الذاكرة، كمنارة في بحر القصيدة، ونسمة على خدّ الوطن. سنشتاق لصوته، لحضوره، لبوحه، لكننا نعلم أنه لا يموت من ترك أثرًا بهذا العمق، ولا يُنسى من علّمنا كيف يُكتب الحب، وكيف يُقال الوطن، وكيف يكون الشعر حياة.

دراسات عليا اقتصاد صحي