المسابقات الثقافية وتنمية العقل
مسابقة أقرأ نموذجًا
لا تقف المسابقات الثقافية والجوائز الأدبية عند حد كونها منافسة بين عقول، بل تتعداها لتكون منصات لتبادل العلوم والمعارف وترسيخ حب الأدب والثقافة بين أبناء الجنس البشري. هي كذلك توسع آفاق تفكيرهم وتجعلهم في حالة من التفاعل المستمر مع ما حولهم، خالقة بيئة خصبة لنمو التفكير النقدي لديهم، بعيدًا عن وسائل الترفيه السطحي.
وتتميز هذه المسابقات بأنها تجمع بين التحدي والمتعة والتنافس، مع خلق دافع داخلي للتعلم، ومن ثم فليس الدافع للمشاركة فيها مقتصرًا على الفوز فقط، بل لكونها كذلك تثير الفضول نحو التعلم، وتحوّل التعلم من واجب ممل إلى رحلة مشوقة.
لذلك فإن مسابقات من هذا النوع - وخاصة المسابقات المرتبطة بالكتب - لا يمكن إلا أن تعد خط دفاع أول عن القراءة والكتب في هذا الزمن الذي يشهد تراجعًا كبيرًا في معدلات القراءة عربيًّا وعالميًّا، أمام أمور إما تافهة أو أقل أهمية، كوسائل التواصل الاجتماعي، التي سرقت أوقات الناس وخاصة الأجيال الجديدة.
وتأتي مسابقة أقرأ، التي يقيمها مركز الملك عبد العزيز الثقافي العالمي ”إثراء“ في الظهران، في محاولة لإعادة تشكيل علاقة الإنسان العربي بالكتاب، لإخراجه من منطقة الراحة السلبية التي ألِفها لكي يخوض بهم ومعهم غمار التنافس الإيجابي من أجل توسيع آفاقهم المعرفية. وتسعى هذه المبادرة ”من مبادرات أرامكو السعودية“، في نسختها العاشرة هذا العام، إلى ”توسيع أثر المسابقة وتقديم تجربة ثقافية تُعيد تأكيد حضور القراءة كقيمة وضرورة لبناء المستقبل“، وكذلك ”تحويل القراءة من نشاط فردي إلى تجربة جماعية تُسهم في بناء مجتمع قارئ. وبعد عشر سنوات من التطوير أصبحت المسابقة منصة ثقافية متكاملة تشمل برامج تدريبية، فعاليات معرفية، وملتقيات موسّعة“.
وما يجعل من مبادرة إثراء أكثرَ إثراءً وأهميةً مشاركةُ أكثرَ من 417 ألف مشارك فيها منذ تأسيسها، وارتفاع أعداد القراء والقارئات في نسختها لعام 2025 من مختلف الدول العربية إلى 192 ألفًا، وهو أعلى رقم في تاريخ المسابقة.
وحينما يقرر الشباب المشاركة في هذه المسابقة ثم يفوزون بها فإنهم بهذا ينسجون علاقة إيجابية مع الكتب حين يكتشفون عالمًا جميلًا ربما لم يكونوا يولونه اهتمامًا كافيًا، وحين اقتربوا منه تبينت لهم أهميته.
كما أن إقامة هذه المسابقة تساهم في بناء مجتمع قائم على التنافس الإيجابي، مشجعٍ على تعزيز قيم المعرفة عبر طرقها الصحيحة؛ وهي القراءة. فعلاوة على انتشار قيم أخرى كالرياضة والثروة وريادة الأعمال، وهي كلها جيدة، فإن وجود هذه المسابقة يثبّت قيمة مهمة في منظومة القيم الاجتماعية طالما كانت متوارية ولا تظهر إلا على الصعيد الفردي أو في المكتبات العامة التي لا تشهد حاليًّا نفس الإقبال الذي كانت تشهده سابقًا.
وتطمح هذه المبادرة إلى تحويل القراءة - مع الوقت - من كونها واجبًا مدرسيًّا مفروضًا إلى مغامرة وتحد ممتع. كما تعطي الفرصة للمشاركين ومجتمعهم المحيط لأن يتحولوا مع الوقت إلى قراء دائمين لا يكتفون بالقراءة لأنها عادة عشوائية، أو لأنهم يحتاجون إليها لاجتياز اختباراتهم، بل لأنها تضيف إليهم معرفيًّا ما لا يستطيعون الحصول عليه بطرق أخرى. وهكذا تتحول القراءة إلى سلوك يومي منتظم في برامجهم اليومية، مع مساهمتها الفاعلة في خلق قدوات قرائية متعددة.
كما تعمق هذه المسابقة في القارئ حالة الفهم والتركيز والتحليل والتفكير النقدي، وهو ما يشكل مناعة لديه ضد التضليل والجهل والتخلف، الذي قد يغلف محيطه المجتمعي.
وهكذا فإن مسابقة أقرأ، التي ينتظرها الناس كل عام، تنعكس إيجابياتها لتشمل مناحي الحياة كافة؛ مساهمة في تنمية عقول الناس، ومحولة القراءة من فعل منعزل إلى نشاط اجتماعي محرك لكل ما هو إيجابي وبناء في المجتمعات العربية.













