دور المثقف وآليات الذكاء الاصطناعي والإبداع الرقمي بين إثبات الهويّة والابتكار والتجديد
في زمنٍ تتلاشى فيه الحدود بين الواقع والافتراض، ويتحوّل فيه العالم الرقمي من أداة مساعدة إلى محيطٍ شاملٍ للوجود الإنساني، يقف المثقف أمام سؤال مركزيّ:
كيف يمكن له أن يحافظ على هويّته الفكريّة والأخلاقيّة، وفي الوقت ذاته يشتبك بفاعلية مع تقنيات الذكاء الاصطناعي والإبداع الرقمي؟
لقد باتت التكنولوجيا —بما تحمله من قدراتٍ تحليلية وخوارزميات عميقة— شريكاً جديداً في عملية إنتاج المعرفة، لا يكتفي بدور الوسيط، بل يطمح لأن يكون منتجاً وموجِّهاً. وهنا تتجلّى مسؤولية المثقف في تجديد أدواته، وفهم التحولات التي تصنعها التقنية في البنية الذهنية للمجتمعات، وفي طرائق القراءة، والتلقي، والإنتاج الفني والفلسفي.
يذهب المفكر إدوارد سعيد إلى أنّ ”المثقف هو من يقف في مواجهة السلطة لا من يبرّرها“، وهي رؤية تكشف أن وظيفة المثقف ليست مجرد نقل معلومات، بل تأسيس وعي نقدي يمكنه مواجهة التمويه، والانحياز، والهيمنة. وفي زمن الذكاء الاصطناعي، تتضاعف هذه المهمة؛ إذ لا يعود الصراع بين الإنسان والسلطة وحدها، بل بين الإنسان والخوارزمية أيضاً.
فالتقنية، كما أشار هربرت ماركوز، تحمل إمكانية ”خلق إنسان ذي بُعد واحد“، أي إنسان ذائب داخل الإيقاع التقني، فاقد القدرة على التأمل. ولذلك يصبح دور المثقف اليوم تحرير الإنسان من طغيان السرعة والسطحية، واستعادة الحس النقدي وسط السيل الجارف من البيانات والتطبيقات.
يُتّهم الذكاء الاصطناعي بأنه سيسلب الإنسان إبداعه، وقد يحلّ محل الفنان والكاتب والمفكر. لكن الحقيقة أعمق من ذلك؛ فالذكاء الاصطناعي —بحسب دراسة لجامعة MIT— قادر على ”توسيع القدرة الإدراكية للإنسان عبر توفير آفاق جديدة للابتكار“، شرط أن يكون الإنسان هو الذي يقود الإبداع لا الآلة.
لقد تحوّل الذكاء الاصطناعي من مجرد برنامج إلى محرّك للتخييل؛ يساعد المبدعين على تخيل صور لم تكن لتخطر لهم، أو صياغة احتمالات سردية ولغوية تعيد تشكيل الحكايات.
وكما يقول جيل دولوز: ”إن الإبداع هو مقاومة.“
والذكاء الاصطناعي يضع أمام المثقف تحدياً يحتاج إلى مقاومة خلاقة، لا مقاومة رافضة؛ مقاومة تُحوّل الأداة إلى فرصة، لا إلى خطر.
لم تعد الهوية مفهوماً ثابتاً، بل أصبحت كما يصفها ستيوارت هول ”نتاجاً مستمراً للتحوّل“. والإبداع الرقمي اليوم يعيد تشكيل هذه الهوية عبر ثلاثة مستويات:
1. إعادة إنتاج التراث بلغة رقمية
فالمخطوطات تُرقمن، والحكايات الشعبية تتحوّل إلى ألعاب تفاعلية، والقصيدة العربية تجد صوتها في الفضاء الإلكتروني. وهكذا تتحول الثقافة من ذاكرة إلى طاقة متجددة.
2. حضور ثقافي يتجاوز الحدود
بفضل المنصّات الرقمية، يمكن لأي نص أن يتحول إلى خطاب عالمي. إنّ الأديب أو الباحث العربي لم يعد محاصراً بالحدود الجغرافية؛ بل أصبح جزءاً من حركة معرفية كونية.
3. مقاومة الذوبان في الثقافة المعولمة
ورغم انفتاح الفضاء الرقمي، تبقى مهمة المثقف هي حفظ خصوصية الصوت المحلي دون السقوط في الانغلاق. فكما يقول عبد الكبير الخطيبي: ”الهويّة ليست قفلاً، بل باباً.“
والمثقف هو من يفتح هذا الباب على العالم دون أن يسمح للعالم بأن يجرفه.
يجب أن يتحوّل المثقف إلى قارئ خبير للخوارزميات: يفكّ شفراتها، ويحلل مؤثراتها الاجتماعية، ويستخدمها لتوليد معرفة جديدة. إنّ الشراكة بين الإنسان والآلة ليست إذعاناً، بل صناعةَ توازنٍ جديد يضمن ألا تتحول التقنية إلى قوةٍ عمياء.
إن على المثقف اليوم أن يفعل ما دعا إليه بيار بورديو: ”تحويل المعرفة إلى قوة اجتماعية.“
ولا يمكن تحويل المعرفة إلى قوة دون فهمٍ عميق لمنابعها الجديدة، ومنها الذكاء الاصطناعي.
إن المستقبل يقتضي مشروعاً ثقافياً يتأسس على ثلاث ركائز:
تعليم مهارات التفكير النقدي في مواجهة هيمنة الخوارزميات.
دمج الذكاء الاصطناعي في العملية الإبداعية بوصفه أداة للتطوير لا بديلاً للإنسان.
بناء أرشيف رقمي للهوية الثقافية العربية يضمن حضورها العالمي وقدرتها على المنافسة.
بهذه الركائز، يمكن للمثقف أن يصنع توازناً بين الهوية والابتكار، وبين الذاكرة والمستقبل.
إنّ المثقف في عصر الذكاء الاصطناعي مطالبٌ بأن يكون جسراً لا حاجزاً: جسراً يصل الماضي بالمستقبل، والإنسان بالآلة، والهوية بالعالم. إن دوره لم يعد تنظيرياً فحسب، بل تحوّل إلى دورٍ بنائيّ يشارك في صياغة المشهد الرقمي الجديد.
ولعلّ أجمل ما يختتم به هذا التأمل ما قاله محمود درويش: ”على هذه الأرض ما يستحق الحياة.“
واليوم نقول:
وعلى هذا الفضاء الرقمي ما يستحق أن نعيد تشكيله، كي يبقى الإنسان مركز الكون لا ذيله.













