آخر تحديث: 28 / 4 / 2025م - 1:48 ص

البحث العلمي ومجتمع المعرفة

ياسين آل خليل

البحث العلمي هو المحرك الأكبر لعجلة التطور والازدهار. واستنادًا لما يقوله خبراء الاقتصاد فإنه منذ نهاية الحرب العالمية الثانية والاقتصاد الأمريكي يحقق قفزات تنموية فاقت الخمسين في المائة وذلك راجع إلى البحوث الأساسية. كما أن الكثير من الباحثين يربطون هذه المدنية التي ينعم بها العالم اليوم من هواتف ذكية وسيارات رافهة وطائرات تجوب أنحاء المعمورة وطاقة تضيئ المدن وتشغل المصانع وغيرها من المواد الأخرى التي نستهلكها كغذاء أو نتزين بها، كل ذلك يعود بفضل الله الى البحث والتطوير وأهميته في بناء الإنسان وتوفير كل ما يضمن ويؤسس لحياة كريمة.

الباحثون الأوائل ربما لم يخطر لهم على بال أو أن يطرق مخيلتهم كل تلك التطبيقات التي أوصلتنا إلى ما نحن عليه اليوم من تطور، لكن تلك الأبحاث وفرت الأسس للأجيال التي تلتها بالأخذ بنتائج أبحاثهم وتفعيلها حتى حتى باتت مخرجاتها ملموسة كجزء رئيس من حياة الناس على امتداد المعمورة. فمثلًا أينشتاين العالم الفيزيائي المشهور عندما صاغ نظريته النسبية قبل مائة عام تقريبًا لم يكن يفكر في أن يتوصل الى ال GPS، أداة القياس هذه التي باتت ترافقنا في جميع تحركاتنا، أو أنه بذلك يكون ابتداءً قد قدم خدمة جليلة للبشرية. إلا أنه لولا نظريته تلك لما توصلنا إلى معرفة كيفية عمل الزمكانية «spacetime»، والتي من خلالها توصل الباحثون إلى هذا الاكتشاف وغيره.

أخذت أبحاث أينشتاين الكثير من الوقت والبحث والتفكير قبل أن يخرج للناس ويطلعهم على مفاهيمه الجديدة التي لم يستطيعوا أن ينفوها ولا أن يبطلوها ولا حتى أن يصدقوها، وكان العلماء بحاجة إلى أدلة وبراهين إضافية للاقتناع والأخذ بمخرجات هذه النظرية، فأقاموا تجارب عديدة لدحض براهينها وإضعافها، ولكن المثير من تلك التجارب وباحثيها أنهم رضخوا في الأخير لتحليلات أينشتاين بعد أن أثبتت نتائج تجاربهم هي الأخرى صحة تلك النظرية.

الاستثمار البحثي والتطويري له مردودات تنموية كبيرة، منها زيادة الإنتاج والذي هو المفتاح السحري لرفع مستوى المعيشة والنمو الاقتصادي لأي بلد. فالبحث العلمي من شأنه أن يُحد من تكاليف إنتاج السلع مما يعزّز القدرة التنافسية والتوسع في اختراق أسواق جديدة بمنتجات وأساليب مبتكرة. هذا بدوره يحفز قيادات القوى العاملة على التوسع في التدريب والبحث المتواصل لتطوير الجودة التي ببحث عنها المستهلك والمنتج على حد سواء. هذا من شأنه تعزيز ثقة المستهلك مما يرفع الطلب على السلعة المنتجة فتتسارع جراء ذلك الدورة الاقتصادية والتي بدورها تدفع مستويات معيشة المواطن للتحسن وبتحسنها ترتقي الخدمات وكذلك البنى التحتية والفوقية والتي من خلالها يقاس تطور الأمم ورقيها الحضاري.

الاستثمار في البحث العلمي بطبيعته ملغوم بالمخاطر وعلى المستثمر أن تكون لديه الدراية والمعرفة لتحديد توجهات العمل البحثي والقيام بدراسات تشمل ولا تستثني الاستثمار في رأس المال الفكري. وما إنشاء المدن المعرفية إلا إحدى تلك الأدوات التي توجه البوصلة نحو اقتصاد المعرفة. البحث العلمي هو أحد أهم أعمدة هذا الاقتصاد وحجر الزاوية الذي يرتكز عليه هذا البناء المعرفي لتنمية المؤسسات الوطنية وخلق البيئة الحاضنة والمنسجمة بما يحقق اقتصادًا قويا تنافسيًا يرتقي بالأجيال القادمة.

مجتمع المعرفة الذي نحن بصدده هو مجتمع تتوافر فيه مستويات عالية من التعليم والتدريب والنمو المستدام. مجتمع تتسم قواه العاملة بالمعرفة الحقيقية الموائمة للعصر. يتسابق أفراد هذا المجتمع لنيل أعلى الدرجات العلمية لتحقيق التطور المنشود في وقت لا يسمح لأحد بالتباطؤ. الدور التقليدي من التعليم الذي يمارس في مؤسساتنا التعليمية اليوم، لم يعد إيجابيًا وفي كثير من المواقع هو أدنى من أن يكون مقبولًا، خاصة ونحن نعيش ضمن كيان عالمي يتصف بالتنافسية والكفاءة والابتكار. قياداتنا الشابة الواعدة هي بحاجة اليوم لقلب الطاولة واستحداث بيئة معرفية لا تنتهي بإنشاء مؤسسات علمية عالمية تنافسية قادرة على أخذ الوطن الى مصافي الدول المتقدمة، بل توظيف المعرفة في التنمية البشرية وتحسين نمط الحياة بما يخدم اقتصاديات هذا البلد العزيز.

قدرة مؤسساتنا العلمية على توطين العلم باستحداث سياسات وأهداف تسهم في تماسك وتقوية المجتمع، لهي كفيلة بإيصاله إلى الأهلية الحقيقية التي تجعله يتصدى للمهام العلمية والاقتصادية الصعبة والتي لم يعد له مناص إلا أن يمشي في ركبها. كل ذلك لا يتحقق إلا بتسليح شبابنا بالمعرفة وشتى أنواع المهارات والتدريب في علوم الاتصال وتكنولوجيا المعلومات وغيرها من العلوم دون الحاجة إلى مد يد العون الى الخارج الذي يعتبر المعرفة أحد مقومات أمنه القومي، وإن الإتجار بها بات من التابوات. السؤال، هل نحن اليوم نمتلك الإرادة والقدرة على بناء هذا الصرح العملاق من مجتمع المعرفة، أو أنه ما زال أمامنا وقت طويل حتى يمكننا التحدث عن هذا المفهوم الذي بات ديدن كل مواطن قلبه على هذا الوطن، من رجالات علم وباحثين وكتاب رأي ومثقفين. دمتم سالمين.