الاستثمار في بناء الإنسان «2»
استيقن القادة اليابانيون وهم في حال لا يحسدون عليه بأنه لا بد وأن تكون هناك من وصفة سحرية تقلب السحر على الساحر وتنتشل الإنسان الياباني من وحل هذه الحرب الضروس لينهض بذاته ويعيد بناء نفسه ليأخذ مكانته التي تليق به بين الأمم لينعم بالرفاهية والتقدم. أُخذ عن المواطن الياباني على أنه أنسان شغوف بحبه للعمل ولذلك شحذ التربويون الهمم وفي وقت قياسي استحدثوا مادة أسموها ”التربية الأخلاقية“ على أن تُدَرّس تلك المادة في جميع المراحل التعليمية. القائمون على هذا المشروع كانوا يهدفون الى إعادة تقويم الفرد الياباني وإعادة هندسته وبنائه ليكون ذلك المواطن المخلص المتفاني والمنضبط أخلاقيًّا وتربويًا في جميع تحركاته وأعماله.
روح التعاون والاعتدال بعيدًا عن العزل والتفرقة كان من بين تلك التعاليم السامية التي خُطت في ذلك المنهج ليتعلمها المواطن منذ نعومة أظفاره ويكبر وينمو عليها ويكرسها في حياته الاجتماعية والعملية. تحفيز الفرد المواطن على تبني البحث العلمي والمثابرة على القراءة الدائمة، هو الآخر دُوّن في المنهاج كاستراتيجية حياتية يهدف من خلالها الوصول الى حقيقة الأشياء لمواجهة تحديات الحياة مع حفظ احترام القيم والحقوق والتفاني في أداء الواجب.
أهمية احترام الوجود الإنساني وقيمته المجتمعية رافد من تلك الروافد التي تم تناولها والتعويل على تطبيقها في جميع مؤسسات الدولة. كما أن المشرعين عملوا ليل نهار لسن القوانين والتشريعات للحفاظ على الوحدة الوطنية وزرع بذور الحب واحترام الآخر بعد أن عملت الحرب على إشغال المجتمع في أمور مزقته وأحرقت كل مقومات الحياة الكريمة التي تدعم أُلفته وتعزز وحدته.
التربية الأخلاقية يُتطلع من خلال تطبيقها إلى صناعة عقول تعي حسن التعامل مع الذات والآخرين أولًا لبناء إنسان سوّي تتوفر فيه مقومات الوطنية بعيدًا عن الزيف والنفاق. أما الهدف الآخر والذي تطلع التربويون اليابانيون لتحقيقه في مجتمعهم من خلال التأسيس لتطبيق التربية الأخلاقية هو الارتقاء بالمجتمع والوطن والنهوض به إلى مراتب العزة والفخر وذلك من خلال احترام العقل وترسيخ العلم وحفظ مكانة العلماء.
أربعون عامًا ونيف قضتها اليابان في البناء الذي شمل كل شيء، هي سنوات قليلة في عمر الأوطان عندما يُنظر إليها من زاوية أن هذا المجتمع قد خرج للتو من حرب ضروس أكلت ما أكلت وتركت وراءها أرضًا محروقة مقطعة الأوصال لا يحسب الناظر المتأمل فيها أنها بأي حال تستطيع الوقوف من جديد. إلا أن شعبًا صلبًا كالشعب الياباني وضع أمامه هدفًا وأصر على تحقيقه، لقادر على أن يجمع قواه وإرادته التي لم تعرف الخنوع ولا الانكسار ليخرج من أزمته ورأسه يناطح السحاب. هكذا أرادها المواطن الياباني وكذلك فعل فأدهش العالم بعظمة إنجازاته وتطوره النوعي فاستوقف العقول وتركها في حالة من الانبهار والعُجْب اللامتناهي.
هكذا هي الأمم التي عرفت كيف تستثمر في العقول وإن علمت أن رصيدها من الثروات الطبيعية لا يمكنها بأي حال التعويل عليه. أما وأن تكون البلد في وضع اقتصادي متهالك فيعمل قادتها ومواطنيها بجد ويستثمروا في بناء الإنسان وينجحوا لينافسوا دولًا عظمى لأمر ترفع له القبعة إجلالًا وتقديرا.