أنسنة الفكر وعقلنته
هل نحن اليوم كأفراد وجماعات يحكمنا سلوك يوجهه المنطق المبني على التفكر العميق، أو أن سلوكنا ليس أكثر من ردة فعل لتجارب شخصية قد لا ترقى لأن تكون قاعدة نرتكز عليها في تسيير أمور حياتنا وعلاقاتنا مع الآخرين...؟ هل نحن كأفراد نوظف الأساليب المنطقية المنهجية العقلانية للوصول الى نتائج مرضية لحل مشاكلنا أو أننا مازلنا للأسف نعيش الماضي بموروثاته السلبية التي جعلتنا في ذيل الأمم المتخلفة؟
الشخص المتوازن عقليًا هو ذلك الشخص الذي لا يعمل تحت تأثير العواطف وغلبتها، بل تراه يتحرر من جميع عوالق الماضي، وخاصة تلك التي تُفٓرق ولا تجمع بل تستنزف الطاقات وتبددها. الشخص العقلاني هو ذلك الذي يستخلص الاستنتاجات المنطقية في ظل عملية عقلية محبوكة بدقة متناهية تزن الإيجابيات والسلبيات لأي عمل أو خيار أو قرار.
فعلى سبيل المثال لا الحصر ترى شخصًا ينسحب بعيدًا عن مشهد كلامي تكون فيه حالة الغضب مرتفعة، بدلًا من أن يبقى إلى أن يصل الحال لأن تنفلت الأمور من زمامها وتصدر أقوالًا مؤسفة من أفراد فقدوا أزارير بوصلتهم فخرجوا من إطار التحكم العقلي والانضباط الشخصي ليقولوا قولًا قد يصعب على الزمن تصحيحه. الشخص المنسحب من هذا المشهد رأى في انسحابه قرارًا عقلانيًا. على النقيض من ذلك، تلحظ آخر يبحث عن أي فرصة شبيهة بهذا المشهد لينقضّ على الآخر بأبجدياته الأميّة ليعبر عن عنجهية موقفه التي يرى فيها انتصارًا لذاته المريضة دون أن يكون لديه أدنى تقدير لما قد تؤول إليه خاتمة الأمور من تأجيج للكراهية والضغينة ضاربًا عرض الحائط كل القواعد الإنسانية التي تدعوا لحسن التدبير في القول والعمل للحفاظ على الحد الأدنى من العلاقات التي تحفظ للإنسان إنسانيته.
معرفتنا عن أن العقل هو المسؤول الأول عن تشغيل مختلف الوظائف التي تقوم بها أجسامنا يدفعنا على أن نحرص أن تكون برمجته تعمل بمستوى عال من الدقة حتى تكون مخرجاتنا السلوكية تتناسب والقيم الإنسانية التي وضعناها أمام أنفسنا وأقسمنا من باب الأمانة أن نلتزم بها ولا نحيز عنها.
ولكن كيف لنا أن نبرمج عقولنا لتعمل كما تتيق أنفسنا وتعشق حتى تصل الى مبتغاها من النجاح في الدنيا والفوز بالآخرة التي وعدنا الله فيها بالخير الكثير. من البديهي أولًا وقبل كل شيء أن نعرف ”ماذا نريد“، لأنه لا يمكننا بأي حال أن نطلب من عقولنا أن تفكر كما نريد منها دون أن يكون لها علمٌ مسبق بتوجهاتنا وأهدافنا.
العقول خُلقت للتفكير والتعقل والتدبر، ولا خير في إنسان لم ينمي في نفسه تلك الملكات التي تحفظ إنسانيته والتي يعلم علم اليقين أنه بدونها يكون أشبه بتلك الكائنات التي تخضع لغرائزها ونوازعها الحيوانية. العقل هو ما نستكمل به كبشر إنسانيتنا، لكننا هنا لا نتحدث عن أي عقل. هناك عقول تفكر وتدرك وتتعمق وتقارن وهذا ما لا يجعلها في مقام من تجمدت عقولهم وأصبحت أسيرة الماضي بموروثاته السلبية الجامدة التي ترفض كل ما يدعوا إلى التقارب وهذا ما جعلها غير قادرة على معايشة عصرها فبعدت كل البعد عن الهدف الوجودي لها بعد عبادة الخالق وهو التعارف بين القبائل والشعوب والمبني على محبة الآخر وهذا هو مربط الفرس الذي يؤكد إنسانيتها.
البعض لا يهمه البتة حديثنا هذا عن أنسنة الفكر وعقلنته وينطق جازمًا أنه سعيدٌ ومغمورٌ بالفرح لو تُرك في الشقاوة ينعمُ. توهموا خاطئين أننا بمناداتنا الناس على عقلنة أفكارهم نريد أن نُمكنهم في الأرض على أن يتحولوا بين ليلة وضحاها إلى مفكرين لامعين وعباقرةً من أمثال أفلاطون. من قال لك يا سيدي أننا بصدد تلك النبوءة الخاطئة.. إنها مسألة متكاملة، من لم ينمي في شخصيته ملكات التفكر والتعقل فلا محالة سينتهي به الأمر إلى فشل ذريع يهز مضاجع وميادين حياته المختلفة. فإن سألتني لماذا، فالجواب بكل بساطة لأن هذا الإنسان فشل في أن يتعاطى مع أبسط وأخطر أمور حياته بأسلوب علمي وتفكير حضاري مدروس، وهذا كله ناجم عن تلك الضحالة في الموروث الثقافي والأمية الفكرية التي تسيطر عليه وتجعله أسير الماضي ولأجل غير مسمى.
السؤال المطروح اليوم هو هل أصبح التفكير في حد ذاته ذلك البعبع الذي يخيفنا كلما تطرق أحدّ إلى ما يمكن أن يوقظ ذلك المارد العظيم «العقل» من غفوته وسباته. أم أننا كبشر قد فقدنا الجدية في تفعيل ملكات عقولنا حتى بتنا نرتعب من التقارب والحوار. لماذا تحولنا إلى ما يشبه الآلات المبرمجة التي لا تكاد تخرج عن الأوامر التي أعدت لها مُسبقًا، لتقول ”لا وكفى“..؟ مازال أمامنا بعض الوقت لأن نُأنسن ونُعقلن تفكيرنا. فهل ما زال هناك من يستمع القول فيتبع أحسنه. دمتم سالمين.