آخر تحديث: 28 / 4 / 2025م - 1:48 ص

الحضارة.. تصحيح مفاهيم أم تعديل مسار‎

ياسين آل خليل

شهد عالمنا المعاصر تقدمًا علميًّا لعب دورًا مركزيًا في تطوير النظم الحياتية المجتمعية بأعمدتها الحضارية المتمثّلة في النظام السياسي والإقتصادي والنظام المعيشي للفرد. التقدم الكبير هذا كان الشرارة الأم التي شكلت النواة لبزوغ مجتمعات حديثة تصدرت الساحة العالمية فطورت ذاتها وأوجدت لنفسها مكانة عالمية بين الدول لتسمح لنفسها بأن تكون لها اليد الطولى والكلمة العالية المسموعة فحق لها بجدارة أن تطلق على نفسها العالم الأول وغيره من الأسماء اللامعة، وإن كان الكثير لا يتفق مع تلك المسميات إلا أنه واقع مُعاش تلحظه العين إن لم نقل بقية الحواس الأخرى.

يقال عن ذلك المجتمع بأنه مجتمع متحضر والآخر متخلف. البعض يُصنف ويجزم أنه مصيب في تشخيصه، والآخر وإن اعترف بأن هناك ما يدعوا تلك الأمم أن تطلق على نفسها بالمتحضرة لكونها قد سبقت غيرها في الكثير من العلوم، إلا أن ذلك لا يجعلها أممًا متحضرة من المنظار التكاملي لتلك المفردة.

الإنسان القديم فسّر الحضارة من زاويته البيئية ونمط الحياة التي يحياها، فوصفها على أنها عكس البداوة التي يغلب على المنتمين اليها طابع الترحال للبحث عن مواطن العشب والماء. فالحضر في منظورهم هم من يترك حياة البداوة لينتقل إلى المدن بحثًا عن عمل ينتهي باستقرار. أما في زمننا المعاصر فقد تناول الناس على اختلاف مستوياتهم العلمية والثقافية مفهوم الحضارة من جانبها المادي البحت، فصوروها على أنها تلك الثورة الصناعية التي مكنت الإنسان من النفوذ إلى الفضاء وتوصله إلى الكثير من الإبتكارات التي سهلت عليه التنقل والتواصل مع أقطار الأرض كالطائرة والسيارة والتلفون الذكي وغيرها من أدوات العصر الحديث.

البعض الآخر نظر إليها من زاوية الإنسان ذاته وبأنه عماد الحضارة ما أن تمسك بقيمه وأخلاقياته وروحه الإنسانية، بعيدًا عن التطرّف والإستغلال والإستعباد والهيمنة لإنسان أو فئة أو أمة على غيرها. نحن اليوم لا نعيش في عالم منعزل عن بقية أطياف البشر، والإنسان مخلوق إجتماعي بطبعه ومن الواجب بل بات من المحتوم عليه أن يتعايش وبقية المجتمعات بأسلوب حضاري بعيدًا عن الهمجية والوحشية وإلغاء الآخر..

أما النظرة التكاملية لمفهوم الحضارة فهي تلك التي تجمع بين كل تلك المفاهيم لتصب في استعمار الأرض وبناء الإنسان والتعامل مع البيئة وما تحويه من أرض وبحر وشجر وماء وهواء وغيرها بمسؤولية، وكيفية استغلال تلك المكونات وتوظيفها توظيفًا حضاريًا لرقي الإنسان الذي كرمه الله ليتمتع ويهنأ بعيش أفضل ومستقبل آمن وواعد.

التراث الحضاري ومقتضيات العصر والثقافة السائدة في المجتمعات تجعل من الحضارة كمفهوم فلسفي موضوع جدلي قابل للنقاش والخلاف. فمن الممكن جدًا أن يكون الإنسان حضاريًا في مُكون من مُكونات الحضارة بينما يتخلف في مُكون آخر، وهذا بالطبع ينطبق على الشعوب والأمم. فالعالم الغربي مثلًا سبق الكثير من الأمم في الجانب المادي والعلمي وأوجد القوانين والتشريعات التي تحفظ لبلده هيبتها وكيانها بين الأمم، وفي نفس الوقت تحفظ للفرد معيشة آمنة وحياة رافهة. في المقلب الآخر تراه «الغرب» قد فشل فشلًا ذريعًا في سياسته الخارجية وتعامله مع الأمم الأخرى خارج أرضه بنفس المعيار من العدالة والمساواة في الحقوق والواجبات.

مع أن هناك روابط كثيرة تجمع أطياف الجنس البشري بعضهم ببعض وعلى رأس تلك الروابط اشتراكهم في الإنسانية، إلا أن تردي الوازع الديني واضمحلال معرفة الإنسان بخالقه وابتعاده عن التعاليم الإلهية أوجدت تلك الهوة بين الإنسان وإنسانيته. هذا بدوره عمَّق من دور المشكلة وعظّم من آثارها السلبية التي جعلته «الإنسان» أكثر جشعًا ووحشية من حيوان الغاب.. ونحن نعيش هذه الهوة وهذا التدني من الإنسانية التي لا تمت الى الحضارة في شيئ، هناك سؤال لا بد من طرحه لأختم حديثي، هل نحن أمام معضلة تصحيح في المفاهيم، أو أن المشكلة تكمن في تعديل مسارنا جملة وتفصيلا حتى نضمن تذكرة الركوب في القطار الحضاري..؟