الموضوعية توازن ومصداقية
نشأة الإنسان في بيئة واقعية، تعايشه في أسرة يسودها الحب والانفتاح على الآخر، خروجه من المنزل لتلقي تعليمه في المراحل المختلفة، تداخله مع أقرانه من الطلاب، تربيته الدينية والثقافة الجمعيّة المحيطة به، خياراته الفردية وتوجهاته في كل ما يُنمي من مفاهيمه العقلية، استثمار تلك الطاقة العقلية في التعرف على ثقافات الأمم والسيح في العوالم المعرفية الأخرى وما أنتجته العقول المبدعة في مختلف أصقاع الأرض، كل ذلك وغيره يخلق عند الفرد ذلك الكم من المعارف والقدرات التي تجعله متبصراً فطنًا رهيف الحس، متيقظاً محترساً لما يدور حوله من أحداث وتغيرات، ومتقبلًا للآخر على اختلافه وتنوعه.
أن تكون مختلفًا هو أمرٌ محمود إذا كان ضمن الإطار المشروع، لا مخالفاً لشريعة سماء ولا منتهكاً للثوابت القيميّة المجتمعية المتعارف عليها.. للأسف هذا يثير حفيظة البعض ممن يرون في الاختلاف خلافًا. هذه الفئة من الناس والتي لا تكاد تتغير لا في مفاهيمها ولا في طباعها، قد تحجرت عقولها فلم تعد قابلة للتغيير والتبديل، فهي تجتر موروثها الثقافي الغير متجدد والذي أكل عليه الدهر وشرب، دون الاستفادة من متغيرات العصر.
فإلغاء العقل ونفيه وعدم الأخذ بما يفرضه الواقع المعاش، مع ما يُضاف إليه من نشاز الأعمال كالتقرب إلى كل ما يشرذم ويمزق من تلك الشخصية ومكوناتها ويجعلها أسيرة الماضي؛ كل هذه التراجعات والانحدارات يقف عندها القريب والبعيد بامتعاض واستخفاف. أما من نفذ النور إلى عقله وقلبه فينظر إليها على أنها تصرفات وإيحاءات همجية منحازة تنتهي بالإنسان إلى التخلف والتراجع والتفكك حتى يصل به الحال إلى خسران نفسه ولو بعد حين، وأيُ خسارة هي أكبر من تلك.
كثيراً ما يتحدث هؤلاء عن الموضوعية، وكم كنت أتمنى لو كانوا يفقهون ما تحويه هذه المفردة من معانٍ سامية جلها يتركز في الجانب التربوي للشخصية التي شُوّهت ملامحها فلم يبقى ما يمكن أن يحفظ لها هويتها. فلو سألت الواحد منهم ”متى يكون المتحدث موضوعياً..؟“ لسمعت ما يُضحكك أبد الدهر.
لا يمكن للإنسان بطبيعة الحال أن يكون موضوعياً عندما تكون أحاديثه في مُجملها تحت رحمة مشاعره وأحاسيسه.. كما أن شخصية بهذه البُنية العقلية الفقيرة، وبأنانيتها وافتتانها الذاتي المبالغ فيه، لا يمكنها إلا أن تكون بعيدة كبُعد الشمس عن الأرض في مسلكها مع الموضوعية. كما أنه لا يمكن لعاقل أن يرى موطنًا للموضوعية في بيئة تفتقر إلى التوازن الفكري وتميل إلى التحيّز ومصادرة العقل والمعرفة.
ليت أمثال هؤلاء المتأستذين تعلمُوا أنهم بقليل من التواضع والشفافية والفطنة كان بإمكانهم معرفة قواعد الحياة قبل أن ينخرطوا بشكل فاضح في لعبة هي أكبر منهم. لعبةٌ تحتاج إلى لاعبين أكْفاء يتبنوا الموضوعية ويعرفوا عن جدارة كيفية الوصول إلى عقل الآخر ويُحْدثوا تغييرًا قد يُثمر في النهاية ليٓصُب في صالح مستقبلهم ومستقبل أجيال لا يعلم حال القادم من أيامها إلا الله.
الاختلاف يا سيدي حقيقة كونية أخذت بها أو لم تأخذ. فإذا ما أردت أن تكون موضوعياً فما عليك إلا أن ترجع للعقل وتحرره من تلك القيود التي أوقعته سجين الرأي الواحد والذي يرفض أن يرى التنوع مشروع حياة تنهض به أمم وتتبناه، وتنحدر أخرى لتخليها عنه. إيمانك بأنك الأوحد في الساحة للأسف جعلك لا ترى إلا نفسك فأوقعك ذلك الاعتقاد أسيرًا بل أُمّعةً لذاتك فأمسيت منصاعًا لأوامرها ”النفس“ مدحورا ذليلًا فاقدًا لحريتك.
سيدي ما أن تنزع تلك الأغلال التي كبلتك حتى تنطلق في رحاب الحرية الواسع لتتنفس هواءها من جديد بعيداً عن الإملاءات والمؤثرات الفردية المنحازة. هذا من شأنه أن يفتح لك آفاقًا جديدة توضح لك الكثير من الخيارات العقلانية التي تُحررُ أحاديثك. أخيرًا من حقك أن تعلم بأن الموضوعية في جوهرها هي ذلك المفهوم الفلسفي المرتبط بالواقع، وما أن تجعلها سياسة حياة واستراتيجية تفاهم حتى تُشْعر مُستمعيك وخصومك بأنك أهلاً للحوار وأقرب إلى الحقيقة منك الى الخيال.
اللهم لا تجعلنا ممن أصيبوا بالرمد في بصرهم وبصيرتهم فتناقضت رؤيتهم للأشياء، فظهرت إشكالياتهم واضحة للعلن والعيان. هنالك تاهت موضوعيتهم بين مؤيد ورافض. مؤيدٌ أخذ بالأشياء من مفهومها الضيق إرضاءً لذاته ومصالحه الدنيوية، ورافضٌ تربى على نقد الذات لأنه وجد في ذلك النهج إصلاحًا ل ”الأنا“ الأمارة بالسوء، وكبحًا لغطرستها الجاهلية. نهجٌ يُوصل صاحبه إلى الموضوعية التي ضاعت في لُجج بحر من الفوضى إلا عن قليل تمسّكوا ببوصلتهم آملين ومُرتجين أن توصلهم بعد توفيق الخالق إلى برّ الأمان. دمتم سالمين.