صمت الحكمة
نحن كبشر تحكمنا سنن وقوانين وترشدنا عقولنا بأننا بما نحتكم عليه من ثروة كامنة من الحكمة والدراية وبعد النظر فإن معظمها ينبرئ خلف سياسة الصمت التي ننتهجها بين الحين والآخر في تداخلاتنا اليومية. ففي الوقت الذي تعجز فيه الكلمات عن إيصال رسائلنا بعيدًا عن العوارض غير المحسوبة، تتجلى مظاهر القوة في لغة الصمت وما ترسله من معاني هي في غاية البلاغة والوضوح دون أن تتسبب في خدش لمشاعر هذا الطرف أو ذاك أو تكون سببًا في إثارة أعصاب أو تأجيج غضب بأي حال من الأحوال.
صمت تحكمه حكمة خير من حديث يتكئ على كلمات لا معنى لها. الصمت لا يعني بالضرورة موافقتك الإيجابية على ما يحدث أمام عينك ومسمعك، لكنه إجابة وافية تحمل الكثير من الردود البليغة لأسئلة قد تعجز الكلمات عن إيجاد الحل الناجع لها.
امتناعك عن الرد في كثير من الأحيان يوصلك إلى القناعة بأنك بصمتك هذا قد قلت كل ما تريد قوله. الصمت في الواقع هو أعلى وأقوى نبرات الصوت التي يمكنك إيصالها عندما تشعر أن الطرف الآخر لم يرتقي ليفهم لغة الكلمات. محافظتك على هدوئك وعدم انجرارك الى الصراخ يجعلك أكثر قدرة على الإصغاء وأبلغ حكمة في الرد.
إذا كنت في بوحك تكتشف جزءًا من مكنونك النفسي فإنك بالصمت تعيد اكتشاف ذاتك وما تخفيه من خبايا. أنت مهما حاولت جاهدًا أن تعبر عما تختزنه من أحاسيس ومشاعر وآراء بالكلمات المسموعة، يبقى هناك الكثير مما تعجز الكلمات عن الإفصاح عنه. هنا تتجسد لغة الصمت وقدرتها على التعبير بنفس الفصاحة أو أكثر من لغة الكلام تلك التي يعهدها السواد الأعظم من الناس.
الناس الأقل كلامًا غالبًا ما يكونوا الأكثر حكمة، فلا تهيئ الفرصة لأحد أن يوصلك إلى حالة من الغضب تلجأ فيها مضطرًا إلى البوح بما لا تهوى، إلا إذا كانت كلماتك أكثر جمالًا من صمتك. تيقن أن أخطاؤك في أغلبها ناتجة عن كثرة كلامك، لا نتيجةً لسياسة الصمت التي تنتهجها كاستراتيجية حياتية.
قد تتعثر قدماك، لكن سرعان ما تستعيد توازنك وترجع إلى الجادة. لسوء الحظ عندما يتعثر لسانك فإنه من الصعوبة بمكان أن تسترجع كلماتك. إذا كان لا محاص لك من التحدث ولو ببعض المفردات، فعليك أن تطرز كلماتك بشيء من الحكمة علّها تُستساغ من قبل الآخرين.
اعلم عزيزي القارئ أن ما تبنيه القلوب في سنين، تستطيع الكلمات هدمه في لحظة. لا تحول نفسك إلى عبد يعمل ليل نهار تحت رحمة كلماته. الصمت كما التحدث مهارة تتطلب التدريب والصبر، كما تحتاج الكثير من الوقت وهو أثمن ما يمكنك بذله في سبيل العلم والتعلم. أرنست همنغواي، أحد أهم أعمدة الأدب الأمريكي يقول أن ”الإنسان يحتاج إلى سنتين ليتعلم الكلام وخمسين سنة ليتعلم الصمت“ فلا تتأخر كثيرًا قبل أن تخوض عباب هذا البحر وتتعلم فنون الإبحار فيه طولًا وعرضا.
فلا تكثرنّ القول في غير وقته.. وادمن على الصمت المزين للعقل
يموت الفتى في عثرة بلسانه.. وليس يموت المرء من عثرة الرجل
ولا تك مبثاثًا لقولك مُفشيًا.. فتستجلب البغضاء من زلة النعل
دمتم سالمين